ارتريا بين السيادة والكرامة
فتحي_عثمان
هل ارتريا الحاضر هي حقا ارتريا التي استشهد من أجلها أجملنا وأكرمنا؟
النقاش والجدل حول موضوع السيادة في ارتريا الحاضر ينبعث ويبعث في كل جلسات الأنس مع الأصدقاء حتى أصبح يشبه أسطورة (الزومبي) في المخيال الغربي. تذهب هذه الأسطورة إلى أن السيوف والنار لا تقتل الذين يبعثون مسوخا من قبورهم إلى الحياة؛ وأن الطريقة الأمثل لقتل هؤلاء هي غرز وتد خشبي عظيم في قلوبهم؛ شريطة أن لا ينظر الطاعن في عيونهم حتى لا تصيبه لعنتهم.
ربما كان التهيج والانفعال المصاحب للنقاش حول المسألة هو الذي دفع عقلي الباطن لاسترجاع أسطورة الزومبي العصي على الموت.
يمكن تلخيص القول بأن المحاورات افرزت عدة اسئلة ولكن ما يحتل الواجهة منها سؤالان متبايني المنطلقات:
أولهما هو: هل السيادة في ارتريا مهددة؟
أما الثاني: فهو: أي (نوع) من السيادة يتوفر اليوم في ارتريا؟
السؤالان مختلفان ليس باختلاف قاعدة الطرح فقط؛ بل يحمل اختلافهما تناقض النوع والكم وتناقض المظهر والجوهر.
لتبين بعد الشقة بين السؤالين دعونا نعود إلى التاريخ الوطني لارتريا وبطولات الأجداد والآباء. السؤال الجوهري الذي طرحه هؤلاء السابقون في فترة النضال السلمي والكفاح المسلح من أجل تقرير المصير كان هو: “حق الشعب الارتري في الحياة”؛ ولكن عصب السؤال كان سؤال آخر وهو: “أي نوع من الحياة يستحق الشعب الارتري؟”
الإجابة جاءت مضمخة بالدم والعرق والدموع؛ وكانت واحدة لا ثان لها: “الحق في الحياة (الكريمة)”
هذه الصفة – الكريمة- هي التي حددت ملمح الجواب ومساره وتشكله الوجودي.
ويتجدد السؤال اليوم على تنويعات أخرى، يفرضها الواقع، “أي حياة يعيشها الشعب الارتري اليوم؟” أو بالأحرى: “أي حياة يعيشها الشعب الارتري تحت سيادة دولته المستقلة؟”
الإجابة الأولى أراحنا منها الأجداد والآباء، ولكننا بإعادة السؤال اليوم نعود إلى نفس المربع، الذي سوف يحزنهم في قبورهم، أن نكون واقفين في نفس المحطة التي ركبوا منها القطار نحو المستقبل.
نعم، ارتريا اليوم دولة ذات سيادة: هذه السيادة التي توجب الاعتراف الدولي، والذي بدوره يفتح الباب لعضوية المنظمات الدولية والمجتمع الدولي، والقائم على تحقق ثلاثة شروط هي: شرط الأرض، شرط الشعب، شرط الحكومة، وهي شروط “القانون الدولي” للاعتراف بكيان ما، إضافة إلى شروط “سياسية ظرفية” اخرى. بناء على ذلك تحققت (مظاهر)السيادة في السياسة الداخلية والتي تشمل: سن القوانين وتطبيقها، إضافة إلى الشق الخارجي الذي هو التمثيل الخارجي والحق في التبادل الدبلوماسي ورفع العلم في المحافل الدولية أسوة بالدول الأخرى.
والسؤال الذي نكرره دوما: سيادة من هي “السائدة” في البلاد؟ ثم أي قوانين تطبق في البلاد وكيف؟ وأنت في الخارج، إذا كنت معارضا للحكومة، هل تمر بشارع السفارة الارترية دون أن تنبت لك قرون استشعار كأنك مسخ كافكا؟
في ظل غياب دولة القانون في ارتريا اليوم، إذا وضعت كلمة (زنزانة) بدلا من (دولة) هل تحس بالفرق؟
بالعودة إلى سؤال الأجداد والآباء؛ فإن موضوع السيادة في ارتريا يجب – فيما أحسب- الا يكون هو سؤال هل هي موجودة أم لا؛ بل بطرح سؤال آخر: أي “نوع” من السيادة تعيش تحت ظله ارتريا اليوم؟
في السعي إلى الإجابة يجب أن يكون مفهوم ومفردة “الكرامة” حاضرة كامل الحضور؛ ذلك الحضور الذي فرضه الآباء والأجداد. فأي فصل بين “السيادة” و “الكرامة” هو نفق طويل ومضلل من الإجابات الخاطئة.
ويتوالد من رحم هذه الأسئلة سؤال جارح وهو: “هل ارتريا الحاضر هي حقا ارتريا التي استشهد من أجلها أجملنا وأكرمنا؟
يمكن للإنسان- إذا كان جل همه- المأكل المشرب العيش في أي مكان عيشة السوائم
ولكن فقط الكرامة هي التي تحدد أي “نوع” من الحياة يحيا وكيف.
وهذا هو سؤال السيادة- القديم الجديد- يا سادتي الكرام.
واخيرا يقول الروائي الروسي مكسيم غوركي: “الورقة التي تسقط في فصل الخريف خائنة في عيون أخواتها، وفية في عين الشجرة، ومتمردة في عيون الفصول؛ فالكل يري الموقف من زاويته.”
وأظن أن شارع وزاوية “الكرامة” يقدمان مشهدا بانوراميا لمنظر السيادة في ارتريا الحاضر.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=45412
أحدث النعليقات