خطوات في الطريق نحو الاستبداد
فتحي_عثمان
أعددت نقاط هذا المقال لندوة باللغة الإنجليزية حول التجربة السياسية في فترة الثورة الارترية. الآن وقد مضت سنوات ولم تنعقد الندوة بسبب ظروف طارئة، وجدت أن هذه الأفكار جديرة بالمشاطرة لسبب مهم وهو أن الآخرين والذين تعنيهم هذه الأفكار أو عاشوها كتجربة حياة قد يثروها بالإضافة والتصحيح خاصة وأني أنوي الرجوع إليها بتوسع مستقبلاً.
بداية لدى اعتراف صغير ولكنه مهم، وهو أن هذه الأفكار وعند تسجيلها باللغة الإنجليزية وفرت لي ما يمكن أن اسميه ب”الممر الآمن”، إذ رفعت عن كاهلي محمولات وظلال الأسماء والمصطلحات (كان كل المطلوب مني حينها هو التعريف بها بشكل محايد)، فمسميات مثل الخفافيش “المنكع” وهي مجموعة من أعضاء الجبهة الشعبية تم القضاء عليها بتهم التخريب والانشقاق، ويقابلها في جبهة التحرير مجموعة الفوضويون أو “الفالول” وهي مجموعة تبنت ممارسات وأفكار وسمت كذلك بالتخريب وتم القضاء عليها والتحق بعض أعضائها بالجبهة الشعبية لاحقاً، وكذلك تلك المحمولات المصاحبة لحركة مارس الشهيرة والتي قادها عبد الله ادريس تحت اسم الحركة التصحيحية، بينما وصفها معارضوها بأنها “انقلاباً دموياً”. كل هذه الأسماء والنعوت التصقت بها مدلولات يصعب التخلص منها دون الوقوع في شرك تأثير الخطاب والخطاب المضاد. فلكل ناظر وجهة نظر وتسمية تتوافق مع وجهة النظر التي يحملها؛ وهذه مقدمة لا بد منها لطرق هذا الموضوع الذي يحتمل بذات القدر ثقل المحمولات وتضاعيفها المركبة كذلك.
وأساس الفكرة هو أن تنظيم جبهة التحرير الارترية كان تنظيماً “مسامي البنية” مشابهاً للتربة المسامية التي تسمح بمرور الماء والهواء بما يسمح بنمو النبات. بالمقابل كان تنظيم الجبهة الشعبية تنظيماً “مصمتاً”، والمصمت من الأشياء هو الذي لا جوف له، تماماً كالحجر الصلد (أشرت قبل إلى هذه السمات في كتاب ارتريا من حلم التحرير إلى كابوس الديكتاتور). ويتولد عن هذه المقاربة إشارة إلى حقيقة وهي أن جبهة تحرير ارتريا احتوت على تيارات سياسية متباينة منها: التيار الماركسي، والاشتراكي العروبي والتيار الإسلامي.
وتطرح الفكرة سؤالاً مهماً وهو: هل كانت جبهة التحرير “متسامحة” مع هذا التعدد بما يسمح بنشوء وطن قائم على التعددية السياسية مستقبلاً؟
تاريخياً بدت تلك التعددية في التيارات السياسية كجزء من طبيعة الأشياء وتمايزها؛ أي أنها أمر طبيعي لا مفر منه. لكن حقيقة الأمر أن القيادة في جبهة التحرير وفي فترات مختلفة لم تكن متسامحة تجاه الآخر المناهض حتى وصل الأمر في مرحلة ما إلى تسمية الآخر المناهض “بالثورة المضادة”. وكان من الطبيعي أن تتصادم التيارات المتباينة تحت شعارات التقدمية والرجعية، لكن هناك ما يفسر عدم التسامح هذا؟
التفسير الأقرب يشير إلى طبيعة الثورة نفسها. فالثورة أكثر سيولة من الدولة وحاجتها للأمن والسيطرة قد يكونان مرضيان في معظم الأحيان. فالدولة لها قدرة كبيرة على السيطرة في الأوطان التي تحولت إلى “اقفاص” محكمة القفل؛ بينما تعيش الثورة مطالب الأمن وأوهام الاختراق، وهذا يفضي إلى مشكلة الأمن والحقوق. فالأمن الثوري يحتاج إلى الحسم وسرعة الاستجابة مما يخلق له هامشا كبيرا للعمل “خارج القانون” (بالطبع إلا قانون الثورة والأمن) وأفضل مراعاة للحقوق يمكن الحصول عليها تتمثل في “المحاكم الصورية” وهي محاكم لا تؤمن الحق الكامل للمتهمين، ولا تعنى كذلك بتأمين “راحة الضمير للقاضي” لأن ضميره راض سلفاً بقانون وممارسة الثورة. وهذه الأزمة تعيشها كل الثورات ومرت بها كل من الجبهة والجبهة الشعبية؟
من ناحية مقابلة حاولت الجبهة الشعبية الهروب مما افترضته “عيوباً بنيوية” في جبهة التحرير وأولها تعدد التيارات السياسية، وثانيها القيادة متعددة الأقطاب.
وحتى لا تقع في المحذور نجحت الشعبية في كبت أي نمو لأي تيار سياسي لا يتفق مع الخط العام للتنظيم، وبالحديد والنار. حتى تنظيم القيادة المركزية “ساقم” والذي توحد مع الجبهة الشعبية في عام 1987 ذاب بصورة كاملة في التيار الرئيسي للتنظيم قيادة وفكراً. ونجحت الشعبية في توحيد القيادة السياسية والعسكرية، ليس ذلك فحسب بل نجحت في توحيد “مكانها” فلم تعاني من وجود قيادتين في الداخل والخارج (قطعت علاقاتها بالبعثة الخارجية التي كان يقودها عثمان صالح سبي في وقت مبكر من عمرها). فمقابل الأقطاب الكبيرة في جبهة التحرير الارترية -على سبيل المثال لا الحصر- ادريس محمد آدم، ادريس قلايدوس، عثمان سبي، عبد الله ادريس، الزين يسن، وأحمد ناصر كانت الجبهة الشعبية تدور على رحى قطبين هما رمضان محمد نور واسياس أفورقي (الوزن القيادي لهما لم يكن متعادلاً في يوم من الأيام)، وتم اختزال القيادة في الأخير في شخص اسياس افورقي بينما توارى رمضان في الظل.
القول بأن تجربة التعددية داخل جبهة التحرير الارترية كانت تعد وتبشر بتعددية سياسية في المستقبل تظل محل تساؤل وفحص مشروع من خلال المسار التاريخي لهذه التعددية وما آلت اليه.
ولكن كون تجربة الجبهة الشعبية، بالمقابل، ومنذ صباحها الباكر واعدة بطغيان حالك، فهذا أمر لا جدال حوله؛ لأن مسار هروب الشعبية من الفخاخ التي نالت من الجبهة لم تترك لها سوى طريق واحد وهو طريق الاستبداد الكامل، وفي النهاية: حتى الطريق إلى الاستبداد يبدأ بخطوة واحدة.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=47230