الفضيلة الغائبة
فتحي عثمان
في العام 1995 أو 1996 – لا أذكر على وجه التحديد- كتبت مقالاً في صحيفة ارتريا الحديثة التي كنت أعمل بها حينها، المقال كان تحت عنوان “فضيلة أن تأتي متأخراً” وفيه ذكرت أنه رغم حصول البلاد على استقلالها متأخرة دون سائر الدول الافريقية وبعد نضال طويلا سلماً وحرباً لكن في ذلك التأخر نعمة في شكل نقمة.
ففضيلة ذلك التأخر هو “الاعتبار والتعلم” من التجارب الفاشلة للدول الافريقية الأخرى والحصول على مزية عدم تكرار تلك الأخطاء القاتلة.
اليوم وبعد ثلاثة عقود من الاستقلال جمعت السلطة في ارتريا، وبقدرة لا تحسد عليها، كل رذائل الدول التي سبقتها في الاستقلال من استبداد وقهر وتنكيل.
تذكرت هذا المقال وفكرته وأنا أقرأ كتاب “ْعبء الرجل الأسود: افريقيا ولعنة الدولة القومية” الذي صدر في عام 1992 للمؤرخ البريطاني المتخصص في التاريخ الافريقي بازل ديفيدسن والذي رحل عن عالمنا في عام 2010 عن 95 عاماً قضى ستين عاماً منها في كتابة التاريخ الافريقي. والرجل كان أيضاً صديقاً للثورة الارترية ففي الثمانينيات ألف عنها (بالاشتراك مع ليونيل كليف) كتابين هما: “نضال ارتريا الطويل” و “وراء الحرب في ارتريا”.
في كتابه عبء الرجل الأسود يلخص ديفيدسن تجربته في كتابة التاريخ الافريقي عبر تناول أزمة دولة ما بعد الاستعمار بالقول بأن الدولة الافريقية قامت على “نموذج” الدول القومية الأوروبية متجاهلة كل الإرث الافريقي في الحكم والإدارة الشعبية؛ فكان من الطبيعي، حسب قوله، أن تتعثر في كل خطاها التنموية والسيادية وعلاقاتها بمجتمعها.
رغم تلك الأزمة، رأي ديفيدسن أن بعض حركات التحرر، خاصة في المستعمرات البرتغالية كجزر الرأس الأخضر (كيب فيردي) وأنغولا أتبعت نماذج الحكم المحلي والإدارات الأهلية: (تحولت الأولى لنقيض الثورة، بينما غرقت الثانية في أوحال الحرب الأهلية ولاحقاً الفساد)
واستشهد ديفيدسن بالثورة الارترية قائلاً بأن الثوار الارتريين وبعد انتصارهم على الشوفينية الأمهرية في اثيوبيا أقاموا حكومة انتقالية تتجه نحو صياغة ووضع دستور ديموقراطي ونظام حكم متعدد الأحزاب وذلك بناء على برنامج الثورة الارترية الذي اعتمد على تجربة الإدارة بالمجالس الشعبية (صفحة 319). كتب ديفيدسن ذلك الكلام قبل الاستفتاء، واليوم وبعد أكثر من ثلاثة عقود على الاستقلال، ما زالت وثائق الحكومة الارترية تحمل مسمى: الحكومة الارترية المؤقتة!
فماذا لو شاهد ديفيدسن ارتريا الحاضر التي تهيأ له أنها تمثل الانفكاك من الدائرة الخبيثة لأزمة الحكم في افريقيا. ماذا ستكون ردة فعله وهو يرى البلاد وقد هالت على رأسها رذائل كل سابقاتها من الدول.
الغالب أن “النموذج السلطوي الارتري” سيدفعه للتخلص من افتراضه السابق، بلا شك، ولكن المؤسف هو أنه سيخيب أمله في التجربة الافريقية برمتها، التي لا قديمها نجح، ولا سالفها فلح، وسينسف كل مخارج الأمل عنده.
خيبة أمل الشعب الارتري في حكومته أفدح من خيبة أمل المؤرخ البريطاني، تماماً كما عبر عن ذلك طرفة بن العبد بالقول:
وظلم ذوي القربي أشد مضاضة من وقع الحسام المهند
وتتعاظم الخيبة مع معرفة أن الآف المغيبين في سجون البلاد حتى قبل استقلالها، مساجين حملوا معصوبي الأعين من سجون الثورة إلى سجون الدولة ومغيبين لعقود طويلة لا تعرف أسرهم إن كانوا أحياء أم أمواتاً. وإذا قدر للحكم في كل من ارتريا وكوريا الشمالية أن يسقطا فسوف يصدم العالم بسجون ومقابر جماعية مشابهة لما تم العثور عليه في سوريا.
وإن كان هناك داع واحد، ضمن الآف الدواع والأسباب، لسقوط الاستبداد في ارتريا، فهو أمل خروج الألوف لرؤية النهار ومعانقة أشواق الحرية.
فإن خاب الأمل فيما سلف ومضى؛ فلا أمل ينقطع في مقبلات الأيام
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=47312