كل الطرق – لا زالت – تؤدي إلى روما
فتحي عثمان

تماماً، كما رأي الانجليز – في تكبرهم المقيت – بأن الشمس لا تغيب عن إمبراطوريتهم، رأي الرومان، قبلهم كذلك، بأن كل الطرق تؤدي إلى عاصمة امبراطورتهم.
شركة المواصلات العامة في روما وضعت المقولة الشهيرة في ظهر حافلاتها: “كل الطرق تؤدي إلى روما”، حيث كل الحافلات تؤدي إلى محطة القطارات الرئيسية في روما “ترميني”.
كذلك كانت طرقي تعيدني إلى روما بعد فراق طويل. روما التي رأيتها في نصف يوم وفي الطريق إلى بولونيا ذات صيف حارق، كانت مزدحمة، تسودها الفوضى وكان صيفها القائظ يخرج أرواح الناس شتائماً ولعنات. ظللت محتفظاً بذلك الانطباع العارض عن المكان والناس، ولكنه كان شبحياً، ومع تطاول العهد به، أصبح متوارياً لإدراكي بأنه لم يكن عادلاً ولا منصفاً، فنصف يوم في صيف حار ليس كافياً للحكم على الناس والأمكنة.
قررت في طريق عودتي من بروجيا أخذ القطار بدلاً من الحافلة، التي كانت مجانية وسريعة، ولكن لكل قطار محطاته وحكاياته التي لا يمكن تفويتها. فالقطار الذي انطلق من محطة سان جيوفاني (القديس جون) من بروجيا مر على عدد من القرى والمدن المتفاوتة الأحجام، وكان الفارق المميز هو الحقول الخضراء أو المباني الشاهقة.
القراءة في القطار ليست كالقراءة في الحافلة؛ لأن القطار بتوقفه المستمر يصعد فيه ركاب ويغادره آخرون فيقطعون لك متعة القراءة، والحافلات في المسافات الطويلة أفضل إذا تمكنت من مغالبة النوم أو الملل. صحبتني في رحلتي إلى روما رواية الكاتبة الكورية هان كانغ الفائزة بجائزة البوكر ونوبل للآداب لهذا العام: “النباتية” رواية غريبة تثير مشاعر مختلطة. أكثر ما لفت نظري فيها هو “الذكاء الشيطاني” لهان كانغ. لا أفسد عليكم الرواية وحبكتها، وأوصي بقراءتها، ربما في السفر، لأنها ذات حجم صغير يستقر براحة في الشنطة النسائية أو حقائب الظهر.
متعة السوح في روما هي أن يصحبك فيها روماني ذواقة ملم بأصناف الأكل والآيسكريم الإيطالي (الجيلاتو) والأماكن والقهوة الإيطالية متعددة النكهات والأحجام (لفت نظري أن هناك قهوة اسبريسو رشفة واحدة: أي في قعر الفنجان) وهناك أقصر منها (تصلح لمسح الشفاه كأنها أحمر شفاه داكن!) بوجود هذا الشخص إلى جانبك ستكشف لك روما عن سحرها الخفي ونكهاتها العجيبة التي خلدتها أفلام فيدريكو فيليني وبرناردو برتولوتشي وروسليني صاحب فيلم (روما مدينة مفتوحة)، وآخرون. أخي عامر بيان – كان الروماني- الذي أكسب رحلتي نكهتها الرومانية المميزة، فهو روماني بالوراثة والهوى، وعاشق لروما التي كابد فيها أيام صعبة حتى أستقر به الحال كعمدة غير متوج لها.
عالم المطبخ الإيطالي ساحر، تتربع على قمة هرمه المعجنات مثل البيتزا، والمكرونة والسباغيتي (الباستا) بأنواعها وأشكالها ( استعجب كم كيلوغراماً من المعجنات يتناول الإيطالي أو الإيطالية في العام الواحد؟) وهناك، بالطبع، الحلويات.
حتى أن العلم الإيطالي ذا الألوان الأحمر والأخضر والأبيض لا يعكس دماء الشهداء وثروات البلاد؛ بل تعكس الوانه حمرة الطماطم وبياض الموزاريلا والثوم وخضرة أوراق الأعشاب العطرية كالريحان والنعناع التي تكاد تدخل في كل طبق.
كما جرت به العادة يوصي السياح بمطاعم بعينها، ولكن كسراً لهذه القاعدة التقليدية أوصيكم بأن يكون رفقتكم روماني ذواقة عارف بالأماكن وعادات الرومان. الغريب أن الرومان (سكان روما) لا يتناولون البيتزا في وجبة الغداء لذلك تجد الكثير من المطاعم تضع لوحات بلغات أجنبية تفيد بعدم تقديم البيتزا في ساعات الغداء. البيتزا المقصودة هنا هي البيتزا “المدورة” والمعروفة لدينا وليست “البيتزا على المقاس” والتي تأتي على شكل مربعات ومستطيلات متنوعة، فهذه يمكن تقديمها أثناء الغداء، ويقول صاحبي عامر بأن الرومان يعدون ذلك عيباً مثل أن تطلب قطعة ستيك مطهية جيداً (تماماً كما هو الحال في فرنسا بالنسبة للإستيك).
قبل أو بعد الأكل هناك الآيس كريم الإيطالي التقليدي (الجيلاتو) وهو ما تشتهر به البلاد عامة. وأشهر وأبدع مكان لتناول الجيلاتو هو محل “فاسي” الذي يشبه محل جروبي في ميدان سليمان باشا في القاهرة ( ربما صمم الأخير على غراره). هذا المحلل تأسس سنة 1888 ويقول صاحبي عامر بأنه أعلن إفلاسه في سنة من السنوات نتيجة لأزمة اقتصادية عامة فعرضت شركات أمريكية ويابانية شراءه، ولكن الحكومة الإيطالية تدخلت ودعمت المحل مالياً باعتباره علامة من علامات المدينة التاريخية. ورأيت في المحل إمراة في الثمانين تقريباً تتناول الجيلاتو بتلذذ وشهية وخمنت، من عمر المحل، أنها ربما كانت تترد على المحل وهي طفلة صغيرة.
ولا أكرر، فبينما تعطيك بروجيا الإحساس بأجواء وادي “ماي أتكموم” في قندع، تعطيك روما (عبر أزقتها والمباني القديمة ومقاهي التيراس) صورة مكبرة لأسمرا، وعندها يدرك المرء لماذا أطلق الطليان على أسمرا اسم “سكوندا روما”.
وبالإضافة إلى السياحة كان في الرحلة بنود أعمال أهمها التحدث والتفاكر مع بعض الصحفيين والأطباء والمسئولين حول إمكانية عمل لوحة تذكارية تخلد ذكرى الشهيد الطبيب يحي جابر في أروقة ومداخل كلية الطب بجامعة روما حيث تلقى تعليمه وتدريبه فيها وفي كلية الطب بجامعة مودينا في ستينات القرن الماضي ثم التحق بالثورة الارترية واستشهد أثناء أداء واجبه نحو شعبه وبلاده. حاولت لقاء بعض أصدقائه أو من بقي منهم على قيد الحياة وسعدت بلقاء زميله ورفيق دراسته الأستاذ جمع أحمد علي بخيت وطرحت له الفكرة. لم تسمح الفترة الزمنية بمتابعة الموضوع، والآن عندما أطرح الفكرة لكم أعززها بمناشدة لكل من يستطيع تقديم العون بهذا الخصوص أن يتواصل معي سواء كان في إيطاليا أو غيرها من الدول الأوروبية. فوجود لوحة تذكارية في الكلية التي درس فيها الشهيد يحيى جابر أقل ما يمكن تقديمه لهذا الشاب الذي ركل الغرب وملذات حياته وآثر أن يموت فداء لشعبه ووطنه.
بند آخر من بنود الأعمال الناجحة في الرحلة كان هو استخراج بطاقة باحث في المكتبة الوطنية الإيطالية والتي تضم وثائق أرشيف افريقيا الإيطالية (الصومال، ارتريا، ليبيا وكذلك شرق افريقيا) وهي كنز لكل باحث ودارس ومهتم بالتاريخ والسياسية وغيرها، حيث تضم المكتبة كذلك الأرشيف الدبلوماسي لوزارة الخارجية الإيطالية ومراسلات حكام المستعمرات الإيطالية مع المسئولين في البرلمان والحكومات المختلفة. وسعدت إيما سعادة بحصولي على الوثائق التي كنت أبحث عنها وفي زمن قياسي. وبالطبع من أهم تسهيلات البحث هي الخدمات التي يقدمها العاملين في المكتبة من توفير للمراجع المختلفة وخدمات التصوير وتوفير بيئة عمل هادئة وبهذه السانحة أخص بالشكر السيد لورينتسو ديكليج القائم على فرع افريقيا الإيطالية وزملائه في المكتبة. ولا تضم المكتبة وثائق تاريخية قديمة فقط، بل تضم كذلك كتب حديثة صادرة تتناول ارتريا واثيوبيا والمنطقة يصعب العثور عليها خارج أسوار المكتبة. وأرجو أن تكون هذه الإضاءة محفزاً للباحثين والدارسين بعدم التردد في التواصل مع المكتبة وطلب خدماتها خدمة للقراء والبحث العلمي الرصين.
وحتى نلتقي في تقرير من مدينة بوسان الكورية أو مادلين الكولومبية (أيهما وصلنا أولاً) كونوا في حفظ الله وأمانه.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=47500