جبهة التضامن الابعاد والمقاصد
عبد السلام ياسين
وجدت المقالة السابقة المعنونة ب ( جبهة التضامن وإلتباس المفاهيم ) إشادة وتقدير من عشرات الكتاب المعروفين في المواقع الإرترية العربية .
وفي الحقيقة أردت من المقالتين عدة أمور أولا وقف عملية تمرير الأراء والمفاهيم والمواقف الإجتهادية والتقديرية كمسلمات وثوابت وبينات بديهية وحقائق علمية غير قابلة للنقاش أو الإختلاف .
وأردت ثانيا لفت الإنتباه إلى أهمية وضرورة فتح الملفات المسكوت عنها بقصد أو بغير قصد , والقابعة في الزوايا المعتمة من مسيراتنا السياسية والإجتماعية بعرضها على مائدة النقد الإيجابي المبني على وقائع لاتوقعات وحقائق لامثاليات , وقراءتها من زوايا مختلفة ومتعددة بتركيز على الأفكارلاالأشخاص كشرط لازم ومقدمة موضوعية لإصلاح أوضاعنا الاجتماعية والسياسية الحبلى بالنكبات والكوارث والاخفاقات من جهة والزاخرة بالدلالات والمعاني من جهة أخرى .
وأردت ثالثا أن أؤكد أن فرص تصويب الأخطاء والخطايا وكشف العيوب والخلل وتدارك النقص والقصور معززة ومرتفعة بمقدار مواجهتنا للحقائق بجدية ومسؤولية وإعترافنا بالوقائع بكل شجاعة عارية كما هي لا كما نتمنى أونشتهي , كما أن التعالي على النقد والمراجعة والمساءلة وعدم قبول الآراء المخالفة والإحتماء وراء المفاهيم الخاطئة والمقولات المشوهة والإطروحات الواهية وتقديس المواقف الإجتهادية تجعل قدراتنا على التصحيح والإستدراك باهتة وهزيلة , فضلا عن أنها تؤدي إلى تفاقم الأخطاء والخطايا وتعميق الخلافات الأساسية والثانوية وتدفع بها في إتجاهات أسوأ وأخطر, وبالتالي تحيل بيدنا لا بيد عمرو من ممكناتنا القليلة والشحيحة إلى مستحيلاًت .
خلصت المقالة السابقة إلى أن التنظيمات الأربعة المكونة لجبهة التضامن كغيرها من تنظيمات المعارضة تختلف في إصولها الفكرية والحركية ودعمت ذلك بنماذج وأدلة مركزة على التباينات التي تميز تلك التنظيمات في مبادئها ومنطلقاتها وأهدافها واكتفت بالعموميات دون أن تشير إلى محطات خلافية متعددة يمكن إستنتاجها تبعا للإختلاف المذكورفي الإصول مثل الرؤية والموقف من الوحدة الوطنية وحقوق المواطنين فضلا على إختلاف في الرؤية الإقتصادية والثقافية خاصة في قضايا المرأة والفنون , وهو ما يعزز ما نتهت إليه المقالة في أن جبهة التضامن لن تتمكن من تجاوز سقف التنسيق والتكامل كما في حالة التحالف الديمقراطي , خلافا لما يقال من بعض قاداتها وكوادرها المتقدمة أنها في طريقها إلى تكوين وحدة عضوية مندمجة تنظيميا وإداريا بين تنظيماتها الأربعة .
وفي هذه المقالة نسلط الأضواء حول الدواعي والظروف التى أدت إلى إطلاق الجبهة الجديدة على المسرح السياسي الارتري وفي هذا التوقيت بالذات من خلال التركيز على أبرزالأسباب والتي يمكن تلخيصها في الآتي ( أن تجربة التحالف الديمقراطي ككيان جامع فشلت من إزاحة النظام القمعي, و أن الآخرين وتحديدا حزبي الشعب والديمقراطي ومن شايعهما بدأوا في ترتيب أوضاعهم ولملمت أطرافهم لورثة النظام القمعي , وأن تغيرات إقليمية ودولية هائلة تجري في خفاء لإعادة ترتيب الأوضاع في الوطن ربما في الإقليم كله , ثم أن الآخر تحديدا – المسيحي – سواء كان في الحكم أو المعارضة هو بطبعه إستبدادي ومتعالي , ولا مجال لمقاومة هذا الإستبداد والتعالي إلا بالتكتل والإصطفاف كمسلمين بمختلف توجهاتنا الفكرية والسياسية ) تلك ربما تكون هي زبدة الأسباب التي أدت إلى إنشاء التكتل الجديد , وهي السياقات التي بنت عليها الجبهة الجديدة مواقفها وخط سيرها , وهو في الأساس كما سيظهر من خلال المقالة سياق خاطئ أو غير مسلم به .
( 1 ) فشل التحالف الديمقراطي القفز إلى النتائج
هنالك قناعات ما بدأت تتسلل إلى بعض قادت التنظيمات المكونة لجبهة التضامن إن لم يكن كلهم ومفادها أن آلية التحالف الديمقراطي كمظلة جامعة لم تعد تشبع رغباتهم وطموحاتهم , وأنها بحالتها الراهنة لن تستطيع مواجهة نظام قمعي بالغ القسوة والشدة كما في حالة نظام ( هقدف ) , إذ أثبتت تجربة العمل المشترك بعد عقد من الزمان وفي مختلف تكويناتها ( التجمع الوطني , والتحالف الديمقراطي ) فشلها الذريع في حمل النظام الديكتاتوري على الإستجابة لبعض مطالبها المشروعة والعادلة المتمثلة في إتاحت هامش من الحريات وفتح كوة صغيرة يمكن من خلالها تنفيس أزمات البلاد الخطيرة , ويعزون ذلك إلى طبيعة التحالف القائم بين التنظيمات الثلاثة عشروالتي تختلف في الكثير من القضايا الجوهرية والأساسية وفي الغالب لا يربطها سوى كره النظام القمعي مع ذلك تفشل على التوافق في إسلوب التخلص منه بين من يرى أهمية إستخدام وسيلة العنف ومن يرى الإقتصارعلى الوسيلة السياسية.
صحيح أن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي في تفعيل الجهود والآليات المشتركة بالدرجة التي تحمل النظام القمعي على تغيير سياساته الخاطئة وتصرفاته الحمقاء, وأن الإيمان بقضية ما ليس مبررا كافيا للإنتصار ورجوع الحق إذا لم يلازمه جهد بأي شكل أوحجم كان , ومن المثالية الحالمة التوقع من النظام الديكتاتوري أن يتخلى عن سياساته وعنجهياته لمجرد أنها غير عادلة أو غير أخلاقية , إلا أنه وبالضرورة هنا إستصحاب الشروط والظروف التي تتحكم في ساحة التحالف الديمقراطي , فالحكم على فشل تجربة التحالف بالقفز إلى النتائج دون المرور بالأسباب يدخلنا في جملة من المغالطات و قدرغير يسير من التحامل غير الموضوعي , فالتحالفات مهما تكن فإنها إنعكاس لواقع التنظيمات التي تتكون منها , وهي مرآة لواقعها السياسي وصورة مصغرة عن أوضاعها الداخلية , لذلك فإن التحالفات الفاعلة والمؤثرة نجد خلفها تنظيمات قوية وناجحة والعكس صحيح , وواهم من يظن ولو لحظة ما , أن تنظيمات منهكة ذات بنيات ضعيفة وإمكانات مادية وبشرية واهنة , والتي تشـكو وبشكل مرضي عـوارض الـترهل و الإعياء المزمن تستطيع تأسيس تحالفات فاعلة ومؤثرة .
والتحالف الوطني كمظلة جامعة يقوم إبتداءا على مرتكزات غير متينة وصلبة , فالتنظيمات التي تكونه ويفترض أنها تشكل أداة حماية وصمام أمان لإستمراريته هي في الأساس تنظيمات أزمة مع إختلاف شكل أو سبب الأزمة من تنظيم لآخر , فالتنظيمات الثلاثة عشر فى الغالب الأعم هي تنظيمات منشقة ومتولدة من بعضها البعض وبالتالي فهي تحمل قدر غير قليل من المرارات والإحن والخصومات والتربص تجاه بعضها البعض بسبب أحداث ووقائع جرت فيما بينها فخلفت حواجز نفسية هائلة تراكمت تاريخيا ( تظالم وخيانة عهود ومواثيق وسرقة جهود والعزل والإقصاء والتشويه وحرق الكروت وإلإغتيال المعنوي والنفسي ) مما جعل السمة الغالبة في أوساطها هي ضعف جسورالثقة أو غيابها, وهي في الحقيقية لم تكن جسورا بمعنى الكلمة ومدلولاتها بل كانت حبالا واهية سهلة الإهتراء والتهتك .
صحيح أن التحالف القائم هوتحالف وقتي ومرحلي وهو ليس بنقص أوعيب , فالتحالفات في الأساس تنهض لبرامج مرحلية وعلى الحد الأدنى الذي يمكن أن يشكل نقطة إستقطاب لأكبر عدد من القوى السياسية , وهو ما مكن بالفعل من جمع ثلاثة عشرتنظيما من مختلف المشارب الفكرية والسياسية إستجابة لتحديات وظروف سياسية معلومة , مع ذلك كان يمكن للتحالف الوطني أن يلعب أدوارا شديدة الأهمية والتأثير لو إستثمر جيدا حالة الإرتباك التي شهدها ويشهدها النظام الديكتاتوري في الإطارين اللإقليمي والدولي , بل كان يمكنه أن يتحول إلى نواة لكتلة تاريخية بالغة التأثير خاصة في المستقبل , بما يملكه من ميثاق نوعي ومتطور يمكن أن يتشكل منه برنامج سياسي طموح يحقق رغبات كافة فئات وقطاعات الشعب الإرتري , إلا أن ضعف التنظيمات المكونة له بالإضافة إلى غياب إرادة وإدارة التحالفات وسيطرة ثقافة التكتيكات والمناكفات السياسية والمماراسات الكيدية وتسجيل النقاط ولو على حساب المصلحة العامة , وطغيان الهم الداخلي على المصالح الكبرى المشتركة أدت إلى إضعافه ( لوحظ أن التنظيمات غالبا ما تدفع للتحالف بكوادر من الدرجات الصغرى وتستبقى كوادرها المؤهلة لعملها الخاص ) فضلا عن أن التحالف عان كثيرا من ولادة وظهورالنتوءات الجانبية من حين لآخر والتي تعمل من داخله أوخارجه وتتعارض معه أحيانا في المواقف وربما بعضها كما في حالة جبهة التضامن تساعد على خلق أجواء التشنج السياسي والتشويش في وسطه , وقد لايعدم كذلك عوامل خارجية تعمل لإعاقة مسيرته والعمل على الحد من نجاحاته .
مع ذلك فإن مايحسب للتحالف الديمقراطي عاليا أنه وفر أرضية مناسبة لإذابة الخصومات وتفريق التناحرات , وأتاح منبرا للحوار بين الفرقاء ووفر مكانا للإتصال المباشر بين المختلفين , بالطبع لن نقول إن التحالف كامل الأوصاف و الأدوار لكنه ساهم بشكل أو آخر في إعادت التماسك النفسي لمعسكر المعارضة ولو نسبيا , والذي كان قد تعرض ولأسباب نفسية وتاريخية الى حالة من التفكك و الانقسام والشتات الخطير, فتكوينات جبهة التحرير المختلفة والتي تفرقت بها السبل منذ بدايات الثمانينات القرن الماضي لم تلتق إلا تحت ظلال التجمع الوطني , وفصائل حركة الجهاد لم تستطع إستعياب صدمة إفتراقها المر إلا تحت ظلال التجمع الوطني نفسه وهو ما يؤكد على ضرورة الكيان الجامع الذي يعمل الجميـع تحـت مظلتـه حتى في ظل وجود الإختلافات في التوجهات والرؤى .
و بكل المقايس والمعايير فإن إنشاء التحالفات الجانبية الصغرى كحال جبهة التضامن وبوجود التحالف الأكبر هو وضع غير متوافق مع ظروف المرحلة التي نعيشها ولا ينسجم مع متطلباتها ، والتي تتطلب بالأساس وبصورة ملحة الحفاظ على التحالف بمكوناته ومؤسساته في المقام الأول ومن ثم تقويته وتفعيله والذي هو من مسؤولية التنظيمات الثلاثة عشر بقياداتها وكوادرها وقواعدها فالتحالف سيظل الطريق الأسلم والأقصر في تحقيق تطلعات شعبنا الساعي إلى التخلص من النظام القمعي مرة واحدة وإلى الأبد .
ويبقى قمة الإستخفاف بالعقول حينما يطرح الخلاف القائم في التحالف الديمقراطي حول إستخدام الوسائل العسكرية في إسقاط النظام القمعي وكأنه خلاف جديد نشأ بظهور التنظيمات المنشقة من الجبهة الشعبية وإنضمامها لمعسكرالمعارضة خلافا للواقائع التاريخية القريبة والتي تؤكد على أن القضية المثارة كانت قضية خلافية قديمة حتى على مستوى الحركتين الاسلامييتن ( الخلاص , والإصلاح ) بل أن المبرارات التي يبني عليها الحزب الديمقراطي في عرقلته غير المنطقية للعمل العسكري أو تبني العنف ضد النظام المحمي بكل أدوات العنف والإرهاب هي ذات المبرارات التي كان يسوغها الحزب الاسلامي إلى وقت قريب , إذ كان يعارض وبضراوة المعارك التي كانت تخوضها حركة الاصلاح ضد النظام القمعي وكان أشد حرصا على تتبع تلك المعارك ببيانات تحمل في طياتها إحتجاجات وتشويش وتشويه بل إتهمات صريحية وواضحة للإصلاح بإستهداف المدنين وإيذاءهم بزرع القنابل عشوائيا في الطرقات العامة , وهو ذات المسلك الذي سار على منواله الحزب الديمقراطي فيما بعد .
( 2 ) إستباق وحدة الحزبين الديمقراطي والشعب وهاجس الثور الأبيض والأسود
منذ أربعينات القرن الماضي ولأسباب ثقافية وإجتماعية وتاريخية مازلنا نحن الإرتريون بمختلف فئاتنا الإجتماعية والسياسية نعيش تحت حالات التوجس والشك والريبة و هواجس الثور الأبيض والأسود , فالثقة غائبة و ردود الافعال حاضرة , وحالات الإستنفار هي السمة البارزة والتي باتت تطبع مواقفنا السياسية خاصة في إطار الصف المسلم , ففي أربعينات القرن الماضي شهد الصف المسلم أول إصطفاف إستجابة لتنادي الآخر المسيحي ( الإتحاد مع إثيوبيا ) فنشأت ( الرابطة الإسلامية بقيادة الرمزالكبير الشهيد إبراهيم سلطان ) فاحتضنت لوقت قصير صفوفه وجموعه ثم سرعان ما تحللت الرابطة إلى روابط .
الرمز البطل الشهيد حامد عواتي ينادي في الجمع ويستنهض هممهم إستردادا للسيادة والكرامة التي إبتلعتها إثيوبيا وبتواطؤ مهين من دول الاستكبارالعالمي ومؤسساته الباهتة فنشأت جبهة التحرير فلملت أطرافه ووحدت مشاعره , وبعد كفاح طويل ومرير إنتهت وكالعادة إلى جبهات عديدة .
والجبهة الشعبية في مرحلتها الثورية كما في مرحلة الدولة إتسمت ممارساتها وسياساتها بطابع الإبتزاز والإستفزاز للمسلمين دون أي حساب لخصوصياتهم ومشاعرهم , فتختطف بعض حرائرالمسلمات العفيفات فينطلق الشرفاء هنا وهناك إنتصار للكرامة والعرض فتنشأ حركة الجها د وماهي إلا أعوام أقل من أصابع اليد الواحدة ويعود كل منا إلى مكانه بالطبع غيرسليم وغير سالم والنتيجة (عدة حركات جهاد) .
وفي الأونة الأخيرة تشهد ساحة المعارضة الإرترية تداعى الحزبين الديمقراطي والشعبي للتوحد والذوبان في كيان واحد لمرئيات رأوها ولحسابات تخصهما , يقابل وعلى عجل وبسرعة فائقة غير قابلة حتى لإنتظار ردود بعض مكوناتنا التنظيمية ( المؤتمر الاسلامي وحزبي النهضة والعفر) فتتأسس جبهة التضامن .
هكذا نحن دائما تأتي دعواتنا للإصطفاف والتضامن كرد فعل لا كفعل , وكحالة إنفعالية عاطفية لا كحالة فكرية شعورية , لذلك سرعان ما نكتشف أن أحلامنا الكبيرة وتطلعاتنا السامية لم تكن سوى كابوسا مرعبا في ما تتمخض به في الواقع من مشاكل وأوضاع .
فأي إستفزاز للآخر( المسيحي ) وبأي صورة أو شكل هو كاف لإستنفار كل مشاعرنا وأحاسيسنا في إنشاء كيانات وإقامت تنظيمات على عجل وعفوية دون تأن أوتروي , تكون ثمرته إستهلاك الكثير من طاقاتنا ووقتنا في معالجة ذيول وآثار التركة الثقيلة الناتجة من القرارات المستعجلة , ومن ثم نبدد قوانا في معارك في غير أوانها وفوق قدراتنا , ونثبت بذلك وفي أكثر من مناسبة صدق ادعاءات بعض المتطرفين من الآخرالمسيحي وهم كذوب بأن المسلمين غير جديرين بالقيادة والريادة وأن قراراتهم ليست سوى مجرد حبر على ورق , ويفشلون دوما على تحويل شعاراتهم إلى عمل , وقيمهم إلى سلوك .
والوضع هكذا فليس بمستغرب أن تتأزم مواقفنا وتتغزم مطالبنا , فالجماهير التي كانت لا ترضى إلا بالوحدة الكبرى بين كيانات وتنظيمات المسلمين تنازلت لتقبل باتفاق الحد الأدنى , ويبدو الآن مطلوب منها أن التواضع أكثر وأكثر حتى ترضى بفضيلة التضامن بين بعض أبنائها ؟؟ .
( 3 ) فقدان العمق الداعم والبحث عن أهداف جديدة :
للواقع كلمته وإملاءاته التي قد تصل أحيانا إلى إجبارالكيانات السياسية بالنزول بآمالها إلى الدرجات الدنيا والإنكماش إلى أدنى هدف ( البقاء على المسرح السياسي بالحفاظ على حياة أفرادها وقياداتها حتى لو أدى إلى أن تتخلى عن برنامجها ) , وفي أحايين أخرى قد يحملها الواقع إلى تعديل مساراتها ووجهتها بالبحث عن أهداف جديدة .
ولقد تضافر عدة عوامل مجتمعة لتدفع ببعض تنظيماتنا المعارضة إلى تغيرمساراتها ووجهتها بالبحث عن أهداف جديدة مشروعة أو غير مشروعة وفي مقدمة تلك العوامل ( فقدان منصات الإنطلاق أوإطلاق ) , فلنجاح أي ثورة أو معارضة تخوض كفاحها ونضالها من خارج أوطانها تحتاج بدرجة أساسية وحتمية إلى عمق داعم ومساند لقضيتها , وتاريخيا مثل السودان الرسمي والشعبي بإقتدار هذا الدور للثورة الإرترية إذ وفر لها كل عوامل الصمود والقوة والإنتصارمع بعد تغلبات وتعرجات وفي فترات متقطعة لم تؤثر كثيرا على مواقفه المبدئية والأساسية في مساندة تطلعات شعبنا في الحرية والإستقلال .
و بعد نيل إرتريا إستقلالها تأثرت مواقف السودان واضطربت كثيرا فهو مع المعارضة ضد النظام القمعي أحيانا , ومع النظام ضد المعارضة في أحايين أخرى , وفق تقديراته ومصالحه , إلا أن العلاقة الراهنة بين السودان ونظام هقدف تشيركل الدلائل والقرائن على أنها قد لا تتغير في المستقبل القريب بغض النظر عن حماقات النظام المتكررة والذي مازال وسيزل أحد أهم أدوات تمريروتنفيذ المخططات التي تستهدف السودان في وحدته وقدراته ومقوماته الكبيرة, وسيعمل السودان خلافا لمواقفه السابقة على إمتصاص سوءات النظام وأذاياه حتى يتفرق لإدارة أزماته الأكثر خطورة ( الجنوب ودارفور ) , ولن يحاول إستخدام كرت المعارضة على الأقل في المنظورالقريب , وهو ما جعل المعارضة – عموما – والتنظيمات التي كانت تجعل من السودان قاعدة نضال وتغيير- خصوصا – تتعرض لضغوطات هائلة حدت كثيرا من هامش مناوراتها وحركتها , وهي ضغوطات كبيرة يصعب جبرها حتى بالترحيب الإثيوبي الكبير وإستعداده التام لتقديم ما يلزم من تسهيلات الدعم المادي والمعنوي لها , فهي مهما تغير في أهدافها ومفاهيمها السياسية لكي تواكب وتنسجم مع متطلبات مرتفعات أديس الساحرة فإنها ستجد نفسها غريبة الوجه واللسان كما حال شاعرنا الكبير أبو الطيب المتنبئ في بلاد كسرى , فالإنطلاق من إثيوبيا ولأسباب تاريخية ونفسية يجعلها أمام تحديات بالغة الصعوبة تهدد ثوابتها القيمية والأخلاقية , وتجعلها في مواجهة خيارات سياسية صعبة ومصيرية .
ومن هنا بدأ الإحباط واليأس يتسلل على نفوس بعض قادة تلك التنظيمات بحسبان أن قطارالإصلاح والتغيير المنشود قد فاتهم , وأن كفاحهم فقد معظم إن لم يكن كل قواعده ومرتكزاته , ومن ثم فإن الوصول إلى أسمرا في ظل هذه الأوضاع والظروف مستحيل المنال وبالتالي فإن معركتهم سياسيا إنتهت تماما , ولم يبق سوى التسلي و البكاء المر مع الشاعرالكبير.
معاركنا إنتهت أفلا تراني رميت مهندي وكسرت رمحي
وهنا بدأت ترتيبات على مستويين , الأول مضمر يهدف إلى الإنكماش إلى أدنى حد ممكن ويتجلى ذلك بوضوح في توجيه جل النشاطات والفكر والجهد في اللحاق بما يمكن اللحاق به في ترتيب الأوضاع الخاصة والعامة في بعض دول الجوار, فتعمد على تشجيع الكيانات الاجتماعية على الذوبان بتوفيق وتقنين أوضاعها القانونية , والتفرغ لإقامت واجهات سياسية فتدفع إليها بجزء كبير من الكوادر وعدد من القيادات .
والآخر ظاهر وعلني ينسجم مع مساعي تغيير الوجهة والمسار , إذ تتحول تنظيمات كانت تتبنى الإطروحات العامة والمطالب الشاملة وللأسف بعضها تنظيمات ذات توجهات دينية كانت مطالبها تتجاوز حدود الوطن تتحول إلى تنظيمات ذات توجهات خاصة ومطالب جزئية , وتنقلب من تبني قضايا المسلمين بعمومهم ودون إستثناء والتحدث بإسمهم والإدعاء بتمثيل مصالحهم , إلى التكلم بلغة المصالح الإجتماعية والجغرافية لفئات إجتماعية معينة, وتبني القضايا التي تشكل هاجساً وهموما لنطاق جغرافي محدد .
وأن أخطر ما في هذه المواقف الجديدة للتنظيمات المكونة لجبهة التضامن غير تناقضها مع الإطروحات الأساسية التي كانت تتباناها سابقا, فإنه يشتم منه نفس خارجي وتظهر عليه بصمته , وذلك بالانجرار بوعي أو بغير وعي وراء مخطط ماكر يهدف إلى تمزيق إرتريا الصغيرة في حجمها والقليلة في مواردها الى كانتونات متباعدة ومتنافرة ومتشاكسة ومتناحرة في كل شيئ وعلى كل شيئ في إستنساخ لتجارب بعض دول الجوارالقائمة على حكم القوميات في أحسن أحوالها , وما الحميمية الزائدة التي تربط تنظيمات جبهة التضامن سابقا وحاليا مع التنظيمات ذات التوجهات الاقليمية الإنفصالية الإرترية إلا مؤشر بين على التتناغم مع ذلك الطرح , وبالتالي البدء بتجهيز المسرح السياسى و الاعلامى للتنفيذ ذلك المخطط الخبيث .
ومن حق جبهة التضامن أن لاتبرز مواقفها السياسية إلا من خلال إستصحاب مصالح فئات إجتماعية معينة وتبني قضاياها والدفاع عن مصالحها , كقضية الاستيطان الداخلي الجائرفي أراضي القاش بركة والتي تجعل منها جبهة التضامن قضية مركزية و أساسية , ومع إيماني الكامل والعميق بعدالة قضية أراضي القاش بركة , وهي مكان إجماع من كافة القوة الإرترية المعارضة على الأقل التنظيمات المكونة للتحالف الديمقراطي بإعتبار أن من ثوابته المجمع عليها ( الإقرار بملكية الأرض لأصحابها التاريخيين ) , إلا ان الجبهة التضامن تتناقض مع الشعارات التي ترفعها – تمثيل المسلمين كافة , والمطالبة دون تمييز بحقوقهم – حين تجزأ القضايا المتماثلة , وتفرق بين الاشكالات المتشابهة , ولذكرى فقط فإن أراضي سمهرإبتلعت كليا في مشروع الإستيطان الجائر وكذلك أراضي مصوع , بل مازال يتواصل الزحف الإستيطاني الآثم إلى الساحل الشمالي , وقبل هذا وذاك تم وتحت صمت الجميع إبتلاع أراضي المسلمين في إقليمي سرايا وأكلوقوزاي , صحيح أن الإستيطان في القاش بركة ربما أكبر وأعمق إلا أنه يظل في النهاية إختلاف درجات لا النوع , ويظل ضمن حالة شاملة تتطلب العدل والمساواة حتى في المطالبات العديمة .
ولكن كقضية أخلاقية ومسؤلية تاريخية يبغى تساؤل في غاية الأهمية ؟؟ هل تعفى تنظيماتنا المعارضة عموما وتنظيمات حركة الجهاد خصوصا من هذه المسؤولية التاريخية – ضياع أراضي المسلمين – ؟؟ وكم تتحمل من وزر هذه المأسآة ؟ ؟ حين تعاملت مع قضية عودة اللاجئين بمنظور اللحظة الآنية في غياب تام للرؤية الإستراتيجية التي تنظر لقضية العودة بمنظور المدى البعيد بتداعياتها الخطيرة وانعكاسات على مستقبل الصراع الديمغرافي في إرتريا , فالتاريخ مازال بذاكرته الحية والمتقدة يتذكر جيدا , كيف أن تنظيماتنا المعارضة خاصة ذات التوجهات الإسلامية ولحسابات سياسية خاصة وخاطئة , كيف أنها إستنفرت قواها وإمكاناتها وجمعت طاقاتها وجهودها في منع اللاجئين من العودة إلى وطنهم , فعملت على وضع المتاريس والاشواك أمام عودتهم , بالترهيب تارة تشكيكا وتخويفا بالمستقبل المظلم الذي ينتظرهم في وطنهم حال الرجوع إلى أراضيهم , وبالترغيب تارة أخرى بقرب إزالة النظام القمعي بتصوريه وكأمه يعيش أيامه الأخيرة الذي , فأسهمت دون وعي في إتاحة فرصة سياسية وتاريخية إهتبلها النظام الهقدف القمعي بكل وقاحة وشذوذ في تمرير مخططاته الطائفية الآثمة .
( 4 ) الاستبداد والظلم هوية أم طبائع :
الظلم والإستبداد طبائع وسلوك وليست هوية تختص بفئات إجتماعية أو دينية أو سياسية دون الفئات الأخرى , فهي طبائع يمكن أن توجد في صفوف المسلمين كما توجد في صفوف المسيحين , والمنطق الذي يقول أن بعض المسيحيين وبدوافع عقدية وثقافية يتعاملون مع المسلمين بمنطق العداوة والأحقاد هو صحيح وبدرجة كبيرة , ولكن غير المنطق حينما نحصرخصال الغرور والإستعلاء والإستاذية والإملائية كماركة خاصة وعلامة مسجلة بإسم المسيحين, ففي صفوف المسلمين أعداد هائلة ممن تتصف بسادية إجتماعية عالية وتتحلى بكل أشكال الإستعلاء والإقصاء تجاه بعض إخوانهم من المسلمين , وفي أوساطهم تتجذر لغة القهر والجور وعقلية التميز والعداء والصراع مع الآخرالمسلم , وتتعمق خصال الظلم والإستبداد والإستفراد والإستحواذ والإستبعاد والعزل القائم على القوة والعنف والإجتثاث المبني على ولاءات قبلية بحتة , ومن المسلمين وخاصة بعض قادة الحركات الاسلامية من يجعل من الولاء العشائري المعيار الأول والأخيرفي بعده وقربه من الآخر المسلم , و يجعل منه المحدد الأساسي لأعدائه وأصدقائه وحلفائه وخصومه
فتجذرطبائع الإستعلاء والإقصاء عند بعض فئات المسلمين هو الذي جعل من بعض تنظيماتنا السياسية التي كانت تطرح نفسها كقوة ثورة وتغيير و تبشربتأسيس حياة اجتماعية ووطنية سليمة وخالية من أمراض المجتمع , وتحتكر شعار وإسم ورسم تاريخي يلامس أشواق وهموم قطاع عريض إن لم يكن كل فئات ومكونات المجتمع الإرتري تغلق أبواب التنظيم ونوافذه على فئات إجتماعية وجغرافية , فتجعل الإنتماء للكيان التاريخي يتأثر بهوية إجتماعية , ويتحدد بالانتماء لقطاع جغرافي معين .
وتمكن الظلم والإستبداد والاقصاء والعزل والعنف والاضطهاد في نفوس بعض قطاعات المسلمين هو الذي يجعل من تنظيم كحركة الإصلاح في موقف إتهام وشبهة كبيرين , بإستغلال العاطفة للجهاد والإستشهاد كغطاء لتمرير المضامين القبلية والعشائرية , بدمج مؤسسات التنظيم ومكتسباته وإمتيازاته في بنية قبلية وعشائرية صرفة , وبتمتين ظاهرة المحسوبيات وتولية الأقارب وتمليك بنود التنظيم وشعاراته وقيمه لفئات قبلية وعشائرية بعينها تتحكم كما تشاء في مـسارات التنظيم وتضـبط سلفا تحركاته ضمن خانات محددة لأبناء والأقارب , وتترك بقية القواعد التنظيمية إن وجدت لإلتهام الشـعارات وإستهلاك الإشارات فقط , مما أعادت الجميع إلى مربع الجهويات والقبليات , و تمزيق الصف المسلم وشرذمته كل ذلك للأسف بتأصيل إسلامي وبتبرايرات دينية في نزعة إنتهازية و أنانية لاعلاقة له بالشعار المرفوع , ولا صلة له مع القضية التي تدعو لها أو أخلاقياتها .
بل هناك شعورعام لدى قطاع عريض من المسلمين أن الحركة غلب عليها السلوك العسكري ومفاهيم العنف وذلك تحت مبرر فرض الطاعة الملزمة وغير المشروطة في إستغلال خاطئ للفتوة الدينية وللأوامر التنظيمية مما أدى إلى تجاوزات خطيرة داخل تشكيلاتها المدنية والعسكرية بإستخدام إجراءات تعسفية بالغة القسوة ضد المخالفين في الرأي , وممارسات لا إنسانية ضد بعض منتسبيها , فيدها كما النظام القمعي مطلوقة وواصلة وفق مصالح تنظيمية واهية غير محسوبة العواقب والمآلات ودون أي رادع أخلاقي او حساب قانوني .
وبالطبع فإن تلك المظاهر السلبية تعتبر خصما كبيرا من الحركة الإسلامية بمختلف تكويناتها والتي كان ينتظر منها تقديم تجربة سياسية راشدة , حسب طرحها وشعاراتها والتي كانت تبدو صحية وقادرة على على الأقل تجاوز مربع القبلية والعشائرية بالإرتقاء به إلى مربع التكاتف والتعاون والتحاب والتواد , لكن للأسف رسبت في تجربتها العملية وممارستها الفعلية والتي بعد سلسة لا متناهية من الأخطاء رست بما يمكن تسميته بكارثة سياسية وإجتماعية حيث فشلت على الحفاظ على نقاء شعاراتها وطهرها وتحصينها ضد الأمراض السياسية والإجتماعية وحمايتها من السقوط في مستنقعات الشقاق والإفتراق العشائري والعائلي خلافا للمبادئ والغايات التي كانت ترفعها , و كان المأمول منها أن تكون القدوة والمثال في النزاهة والعدالة والارتقاء بالممارسة السياسية إلى مستوى شعاراتها بما تملك من ضوابط دينية وتعاليم سماوية , بل شهدت في الأونة الاخيرة إنحطاطا بالغا في لغة التخاطب فيما بين مكوناتها الأساسية حيث برزت لغة التخوين والاتهام بالعمالة والمغفل النافع كما في مقالات الإستاذ حامد تركي الأخيرة في دلالة أعمق على أن الحركة الاسلامية لا تؤخذ من تعاليم الاسلام السمحة إلا الشكل , ومن صورته الزاهية إلا الإطار.
ويكون قمة الإنحطاط والسوأ في توظيف الدين وتعاليمه المتسامحة لخدمة أغراض الظلم والإستبداد , ويكون منتهى الإحباط والإستسلام حين يجد الظلم لنفسه مخرجا دينيا في ممارساتنا السياسية , ولا أدري كيف تسقط حركة إسلامية من تعاملاتها الحركية والتنظيمية قيمة العدل كقيمة أساسية لإستقامة الصفوف وإستمرارية المسير وهي التي تعتمد في مرجعياتها الأساسية على تنظريات وتخريجات إبن تيمية الفقهية وهوالمأثور عنه قولته الذهبية والتي جعلت منها الدول المتحضرة موجه دستوري بالغ الإحترام والإلتزام ( إن الله لا ينصرالدولة الكافرة لو كانت عادلة , وإنه ليخذل الدولة المسلمة لوكانت ظالمة ) .
صحيح لن نساوي بين تنظيماتنا المعارضة بما فيها حركة الاصلاح وبين السجان الكبير النظام القمعي في إستخدامها أساليب القهر والظلم , وسلوكها مسالك القمع والإستبداد , فالنظام الديكتاتوري هو دون شك أسوأ ما شهدته الكرة الأرضية تسلطا وتجبرا وعنادا , فهو يستخدم العنف والعدوان لإدامة هيمنته وسلطانه , ولا مجال للمقارنة بين ممارسته المجرمة والتي هي عنوانه ومقوم بقائه , وممارسات بعض تنظيمات المعارضة الخاطئة, مع ذلك و في كل الأحوال فإن الجرم سيظل جرما , والظلم ظلما والإستبداد إستبدادا , ولن يتحول الظلم إلى عدل إذا مامورس بواسطة تنظيمات المعارضة المظلومة من النظام الظالم , ولا القهرإلى حرية إذا ما موقع من بعض فصائل المعارضة المقهورة من النظام القهري , بل إن شواهد التاريخ تؤكد أن ظلم ذوي القربة أشد مضاضة ؟
وفي كل الاحوال فإن الحرية وإحترام حقوق الإنسان ينبغي أن تظل من البديهيات الملحة والمسلمات الأساسية والقضايا الجوهرية والمصيرية للتنظيماتنا المعارضة خاصة الإسلامية منها , ويجب أن تظل أهم مقياس من مقاييس إستقامتها ونزاهتها , فالذي يعجزعن صنع السلام الاجتماعي والنفسي بين منتسبيه فهو لأعجز في تحقيقه مع الآخرين ؟.
( 5 ) الوحدة سلوك قبل أن تكون مطلب :
أقدر جدا كل الدعوات التي تطالب بأهمية البعد عن التنازع والإختلاف الذي يبعثر القوى ويضيع الطاقات , وأدعم شاكرا المساعي الحميدة والتي تعمل إلى رفع المظالم وإسترداد الحقوق المشروعة والعادلة , ومفرح جدا أن نسمع الأصوات التي تتلهف الى لملمت جراحنا وكرامتنا ومصالحنا من خلال المنادة الجهيرة بالعودة الى سياسة التضامن وفضيلة الإجماع , وآمل صادقا وبكامل إرادتي ووعي أن يتسامى الجميع فوق الخلافات والحساسيات و الجراحات , وأن يتسارعوا الى فتح صفحة جديدة من الإخاء والمودة والتضامن , فالوحدة تظل أحد أعظم وأنبل المبادئ و الأهداف التي تربط بين المسلمين مصالحا ومصيرا في حاضرهم ومستقبلهم وأنها تمثل أفضل أوراق القوة , ولا أحسب أن هنالك من يتضرر أو يخسر من إنهاء حالة التجزئة والتمزق والتشرذم والتناحر و الصراع التي لا زمت صفوف المسلمين لفترات ليست بالقصيرة
فإستمرار الخلافات إلى ما لانهاية يعني الضياع والمزيد من الانتكاسات والهزائم والنكبات .
مع ذلك فإن تلك المساعي على أهميتها وإلحاحها تحتاج إلى عمق في التفكير وبعد نظر, فمن الأهمية بمكان الإدراك جيدا أن الوحدة ليست وصفة جاهزة نلبس لبوسها متى ما نشاء, ونخلعها حين نشاء , وليست حالة مزاجية طارئة نقيمها متى نشاء ونهدمها غير مؤسفا عليها حين نشاء
فالوحدة عملية تفاعلية تستند في الأساس على عامل الثقة كمقوم أساسي ومرتكز حاسم في قيام الوحدة وإستمراريتها , وأن أخطر ما يفتقده المسلمون في حاضرهم هو فقدان الثقة ربما في كل شيئ ومن كل شيئ , وهو ما يحول دون الإنخراط مجدداً في أي تجربة وحدوية , والنظر بعين الشك والريبة لأي خطوة تدعو إلى التقارب , فالقطاع الاعظم من المسلمين مازال مصدوما بما آلت إليه تجاربنا الوحدوية السابقة خاصة تجربة حركة الجهاد والتي لم تقنعنا بعد أن خلافاتها وإنشقاقاتها كانت لإختلاف في وجهات نظرسياسية أوفكرية , أوخلافات إجرائية وإدارية , فمازالت الشكوك ولدى عدد كبيرمنهم متعاظمة بوجود خلفيات قبلية وعشائرية لما إنتهت عليها تجربتها , مما تقف كحائط سد مانع من تكرار تجارب وحدوية أخرى, فالخلفية التاريخية والخبرة الواقعية للمسلمين باتت في الغالب تقعد بهم من الإنجرار خلف أي تجربة وحدوية جديدة , وأورثتهم هواجس ومخاوف حول الأهداف والمغزى من أي مبادرة تدعو لتجاوز الماضي , وهو ما جعل من بعض مكونات المسلمين تنكفئ على ذواتها وخاصتها , وتحتمي بكيانات خاصة بها مستقلة بقضاياها ومصالحها حاضرا وربما مستقبلا , جاعلة من القضايا العامة والمصالح المشتركة الأكثر إلحاحا.خارج اهتماماتها وأولوياتها الجبرتة والعفر .
و مهم جدا إدارك أن الوحدة سلوك قبل أن تكون مطلب , فبمقدار ضرورة الوحدة بدلاتها ورمزيتها المتسامية , فإن السلوك الوحدوي غاية في الأهمية لضمان إستمراريتها وإنجاحها .
فلا خلاف مطلقا حول الوحدة كأهمية وضرورة ومشروعية وكمطلب نبيل وجميل , إلا أنه من المهم إذا أردنا أن تأخذ الوحدة مجالها وموقعها الحقيقي وأن تؤتي ثمارها وتحقق أهدافها أن نعايشها كثقافة وفكروإسلوب حياة وخلق يقوم على رفض كل أنواع القهر والإكراه والإذلال والإقصاء والولاء للعشيرة والتعصب للقبلية , فضلا على قبول الآخر وجودا وحقوقا , والإعتراف بأهميته وأدواره , وبذل الإحترام والتقدير لجهوده وتاريخه .
وتاريخنا السياسي للأسف مليئ بإستخدام الأساليب الخبيثة وغير الشريفة تجاه بعضنا البعض من سيطرة التصور السلبي عن الآخر المسلم وما يترتب عليه من الحذر والتوجس والسوء الظن , والتجريح والتنقيص والإزدراء والتحقير مما تركت في النفوس والعقول ترسبات وخلفيات وتعقيدات خلقت حاجزا نفسيا أسهم وبصورة أساسية في خلق التنازع والتحاقد والتدابروالتباغض , وصناعة الخصومات و إكتساب العداءات ونشر الكراهية والبغضاء , وتسمميم الأجواء وتأزيم الأوضاع .
والوحدة شأن عام وقضية إجتماعية وسياسية بإمتياز تحتاج إلى سبل وآليات في إقامتها وضمان إستمراريتها وفي مقدمتها مشاركة كافة الأطراف المعنية ودون إستثناء لأي طرف منها في صياغة المشاريع الوحدوية والمواقف السياسية العامة , لا كما يدعو الاستاذ محمد عثمان علي خير في حصرها على قومية التقري , وهو ماسلكته جبهة التضامن فعلا وواقعا , وهو مسلك خاطئ إبتداءا وإنتهاء ( أن تختبئ مجموعة منا ربما قليلة العدد والعتاد في مكان ما وفي زمان , تناقش نيابة عنا وفي غيابنا قضايانا المصيرية وتخرج لنا بقرارات خطيرة ومصيرية غير مهم لو كانت خارج الإطار وخارج العقل وخارج المعقول وخارج المنطق , و ليس مهما حتى لو كانت خارج الممكن وخارج التاريخ وخارج الجغرافية , فالمهم هو أنها خرجت لنا بالشعار الداوي – لا صوت يعلو فوق صوت المعركة , ويا خيل الله إركبي- والأهم أنها تعمد على حملنا إلى قناعاتها ومواقفها والخوض بنا معاركها التي حددت سلفا زمانها ومكانها .
ليس مهما أن يكون لك رأي في المظلة التي خرجوا بها بأن تكون مثلا مصممة على مقاساتهم الجغرافية ووفق أحجامهم الإجتماعية , فالمهم هو أن تلزم الطاعة في كل الاحوال والسير بهدوء ودون أي إحتجاج في الموكب المهيب , فهم كما يدعون يمثلونك ويتحدثون بإسمك حتى إن لم تفوضهم وتنتخبهم , والويل ثم الويل إذا تخلفت عن الركب , فوصف العمالة والخيانة والمؤامرة جاهزة لإلصاقها بك , حتى لو كان تخلفك عن الموكب لتقديرات ومرئيات مقنعة لك , فالمطوب منك وعلى عجل تعديل قناعاتك ومواقفك , ومتى كانت قناعاتك ومواقفك تأخذ في الحسبان ؟؟ فلا تنسى الزمن التي تعيش فيه , والواقع الذي يتحكم فيك فهو كما عبر عنه الفنان الهرم حسين محمد على ( مي رأيك تم , مي سمعك تم ) وإن لم تفعل ذلك فعليك أن تتحمل مسؤولياتك التاريخية والأخلاقية في عرقلة تطلعات المسلمين السياسية والمطلبية بوعيك أو دون وعيك , بإرادتك أو بغير إرادتك , وتكون بذلك متعاونا بدرجة الإمتياز من الاعداء والخونة والمجرمين .
تلك المشاهد العبثية بمقدار ما تكشف عن قصور في الرؤية والجهل بالخطوات والأساليب العلمية اللازمة والموصلة إلى وحدة متينة وصلبة قادرة على الاستمراروالحياة , فإنها تكشف عقليات إستعلائية وإملائية إنفرادية وإقصائية إستمرأت أن تسوق الناس قسرا و كرها في الإتجاه التي تريده حسب رغبتها وحاجاتها وآمالها وطموحها , وهو ما يقلل قيمة الوحدة في النفوس , وتخفف من وزنه في القلوب .
فالتعاطي مع القضايا الكبيرة بحجم توحيد الصف ولم شمله بمثل هذا التسطيح والتبسيط والخفة يدل إما عدم جدية المشروع المطروح أو عدم واقعيته , وفي كلا الحالتين فإنه تلاعب إستخفاف بالعقول وتلاعب بالمشاعر , فالمشاريع التي تطرح بذلك الشكل الغائم والغامض وغير الواضح هي محاولة للقفز للمجهول , فضلا على أنها محاولة لتجاوز وقائع التاريخ ومسلماته إما بجهالة أو غفلة أو استغفال , ولا نحتاج للذكاء الخارق للحكم عليها سلفا بالفشل , وتسهم في إحجام الناس في السير ورائها لأن إنجرار في السبيل المختبر والمجرب هو ما يفعله الحمقى فقط .
والبحث عن الخلاص من النظام القمعي , أو رفع الظلم وإسترداد المظالم لا يعطي لأي فئة إجتماعية كانت أو سياسية رخصة أخلاقية أو سياسية , في اتخاذ القرارات المصيرية نيابة عن الآخرين ودون دراسة أو تمحيص ودون تخطيط أو استراتيجية تكون دائما نتائجه الارتجال في المواقف وبالتالي الفشل الذريع في تحقيق مقاصد الوحدة وغاياته الجوهرية مما تسبب عكسا في تقليل قيمتها ووزنها والثقة بها , وبالتالي تسهم في قتل رغبة التفاهم وحنين الإلتقاء بين مكوناتنا الاجتماعية والسياسية , وتحويل الآمال المشروعة الى خيبات أمل جديدة تضاف الى سابقاتها الكثر .
فالمطالبة بالوحدة كضرورة إستراتيجية لا يمنع من التذكير بأننا نواجه بمشكلات من العيار الثقيل , وواقع مثقل بالجراحات والآلام ومليئ بعقبات حقيقية وليست متوهمة كما يظن البعض , عقبات حقيقية وظروف قاسية وملابسات لا يمكن تجاهلها ولا القضاء عليها بين يوم وليلة أو عشية وضحاها , ومهم جدا إستشعار أننا في حالة مرضية وليست مرضية , وفي حالة إستثنائية يتمثل أبرز مظاهرها في الانقسام العميق في الصف المسلم , وحجم الشرخ والتفكك الهائل والجروح العميقة والشكوك ألاعمق التي تميزه , وبالتالي الأوضاع متباعدة و غير مهيئة نفسيا وإجتماعيا والمسرح غيرمعد والطرق غير ممهدة لجمع الكلمة ووحدة الصف وتحتاج إلى مزيد من الوقت والفكر والجهد إذا أردنا حقا وصدقا دمل الجراح واعادة اللحمة الى الجسد الواحد ومن يقول غير ذلك يكون حالما ومثاليا .
والحال كذلك يظل الحديث عن وحدة المسلمين دون المرور أو الوقوف بمحطة التقيمات والمصالحات كمقدمة سابقة ولازمة مجرد إستهلاك سياسي وإعلامي , ولن يخلف إلا نتائج عسكية وسلبية ، ولأحسب أن المعالجات السطحية والإرتجالية على شاكلة جبهة التضامن المبنية على عفا الله عما سلف , وبإسلوب أقرب إلى حل الكلمات المتقاطعة في الجرائد الاجتماعية الباهتة لن يوصلنا إلا إلى السراب حتى إذا حسبه بعضنا خطا مآء .
ولا فائدة إذا من الإسراف في التبريرات والشروحات التي تحاول أن تقفزبنا إلى سماوات الأحلام والخيال , و توهمنا أن مشاكلنا التاريخية المتراكمة تم إلغاءها بجرة قلم من قادتنا الابعة و تم حسمها بضربة واحدة وقاضية وبحركة سريعة من تنظيماتنا الأربعة في تبسيط مخل لقضايانا الشائكة و تناقضاتنا الأساسية والثانونية .
ورفع شعارات الوحدة على أساس أنها الحل دون دراسة عميقة للمتطلباتها الأساسية من توفير الأجواء الصحية تهيئة للنفوس وتوجيه للعقول وتطويعا للظروف والشروط , وتحضيرا لأدوات الواقع اللازمة , تظل مجرد تمنيات نظرية لا جذور لها في الواقع، وستكون طبخة بلا طعم ولا رائحة , لن تقلل من شقة خلافاتنا القائمة أو تقرب بين وجهات نظرنا , ذلك إن لم تعمق شرخنا , وتزيد من هوته وتوسع من فجوته, لأن في عالم السياسة الواقعية لا يوجد مبدأ كن فيكون بل هو عالم لا يعترف إلا بالخطوات المبدئية والتي تستند إلى الأنسب في التخطيط والأهداف و السبل والتوقيت , يتبلورمن خلالها مشروع جامع محدد بدقة ومنتخب بعناية سواء كان (مشروعا للخروج من دائرة الشقاق والإفتراق والتمزق التي نعيشها كمسلمين وهو الاهم في نظري والمقم على غيره , أومشروعا لرفع المظالم والمطالبة بإسترداد الحقوق المهدرة من قبل النظام القمعي ) .
إذا وواقعنا كذلك فإن الحل النهائي و الجذري للإشكالاتنا المستعصية مرهون بالوقوف على التجارب الوحدوية التي مرت بنا بكل جدية وصدقية تدقيقا وتمحيصا, بقراءة هادئة وإجراء مراجعة جدية لوقائعها وأحداثها , ببسط الحوارات الداخلية الواسعة والصريحة والشفافة ، تتناول مختلف القضايا المهمة والحساسة بصدر منشرح وتقبل حقيقي للرأي والرأي المخالف, والبحث بجدية عن مكمن الخلل والإخفاق في ممارساتنا ومواقفنا ورهاناتنا , لماذا فشلت تجاربنا الوحدوية السابقة ؟ سؤال في غاية الاهمية , يتطلب الاجابة عليه الصبرالطويل والتحمل المضني , فضلا عن شجاعة فائقة وبصيرة واعية , والإجابة الصحيحة بالطبع ستشمل الفكر والسياسة والمنهج والإسلوب ثم الوقائع والأحداث وبالتالي المآلات والنتائج , ولا يعني ذلك أن نجعل من ماضينا مناحة ومحطة لجلد الذات وطلب ثارات وحائط مبكي نجتر فيه آلآمنا ومآسينا , فنحن ندرك جيدا أننا نعيش في مرحلة وفترة زمنية ربما ليس فيها من مواصفات الزمن الفائت إلا القليل , لكن مع ذلك فإن للماضي شئنا أو أبينا تداعياته وإنعكاساته الخطيرة على حاضرنا ومستقبلنا، وله سطوته وكلمته المؤثرة في سلوكنا وفي تحديد مواقفنا وفي تكوين نظرتنا , لذلك من الحماقة القفز على مواجعه وفواجعه , حتى لا نكرر ببلاهة أخطائنا وخيباتنا , وهو ما يلزمنا الوقوف على أسباب موت تجاربنا الوحدوية السابقة, ومهم جدا لإقامة ولضمان إستمرارية التجارب الوحدوية الجديدة أن يدفع من تسببوا في إفشال وتدميرمن سبقها من التجارب الوحدوية ثمنا ما , حتى لوكان ثمنا معنويا الإعتراف والإعتذار .
فإسترداد حقوق المسلمين كمطلب نبيل وجميل لا بد وبشكل قاطع أن يمر ببوابة الاعتراف بالخطأ والتوبة وإجراء مصالحات داخلية جريئة , وهنا يلزم أمر ضروري وهام لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه , وهوالوقوف على المحطات المفصلية من تاريخنا البعيد والقريب والتي كانت مؤثرة في مسار موصلته أوضاعنا , صحيح الوقوف عليها ربما تكون مؤلمة ولكنها لازمة وحتمية , ككشف لغزملابسات إختفاء ومقتل العديد من أبناء المسلمين , وبالذات بعض الأحداث التي أصبحت قضية رأي عام ولها حضور عميق في الذاكرة الجمعية لدى المسلمين منها مقتل أحد أبرز قادة ( حركة الجهاد ) عمر تدريدوس , خاصة حول مغازي ومعاني موقف الحزب الاسلامي من إتهام حركة الإصلاح بتدبير حادثة الإغتيال , مما يثير التساؤلات والإستفاهامات العديدة والعميقة تحتاج لإجابات ما , ذلك إما أن الحزب الإسلامي يملك الأدلة الدامغة وبالتالي قادر على تعين وبشكل قاطع قائمة الجناة , وإما أنه تجني على حركة الاصلاح وتشويه لسمعتها فإطار تصفية الحسابات وتكبير الكوم في مكافيلية ممجوجة وسقوط مدوي للأخلاق .
صحيح ربما يكون التنظيمان قد وفقا أوضاعهما لا حقا بتفاهمات سياسية في هذه القضية البالغة الحساسية بالتنازل هنا والعفو هناك , ولكن من المهم أيضا عدم إغفال الرأي العام المسلم في إستصاحبه بوضعه في الصورة بشكل ما , حول مانتهت عليه تلك القضية الهامة والتي لا يستطيع تاريخ الحركة الاسلامية الإرترية إهمالها أو إغفالها , أو تجاوزها والقفز عليها بالسهولة و إلا ستظل المطالبة بتوحيد الصفوف ورأب الصدع فارقة في معانيها ومبضامينها لن تثمر إلا مزيدا من الانقسام والإنشطار وبشكل يسيئ لسمعة كيانات الحركة الاسلامية وصدقيتها أولا وأخيرا .
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=496
أحدث النعليقات