الإرتريون والهوية الإرترية … ورقة للمناقشة

الحلقة الأولى.

 

يفترض أن يكون الحوار حول (الهوية الإرترية) قد انتهى إلى رؤية مشتركة، وفلسفة موحدة، بين الإرتريين جميعهم، منذ وقت مضى، لكن يبدو، أن مسألة الهوية، ما زالت آخذة في التفاعل، ولهذا نجد الانسان الإرتري، حتى هذه اللحظة، عاجزا عن تقديم (هوية إرتريا)، إلى من حوله من البشر، بتعريف مانع جامع، يطابق واقع تركيبة الشعب الإرتري، وحقيقة تكوينه الثقافي، والحضاري، ويعبر عن مشاعره، وينسجم مع تطلعاته، وينعكس في الوقت ذاته، على مجمل سياساته الداخلية، والخارجية.

 

ومن ناحية أخرى أن موضوع الهوية الإرترية، ليس بذاك الذي يفكر فيه أحد بالنيابة عن الآخر، ولا بالذي يحسم بقرار سياسي فوقي، وإرادة ثورية متغلبة، تكره الناس على مفهوم بعينه إكراها، وتحملهم عليه قسرا، وإنما بنقاش مستفيض، وعميق، تساهم فيه كل القدرات العلمية، والفكرية، وكل الأقلام المؤهلة، والقادرة على تناول الموضوع، بكل أطرافه، وأعماقه، محللة، وناقدة، لكل ما قيل، ويقال، بشأن الهوية الإرترية، بهدف الوصول إلى رؤية عقلانية، تعود على الوطن كله بنفع عميم، وتضمن له استقراره السياسي، وازدهاره الاقتصادي.

وقليل هو من كتب عن الهوية الإرترية، في حدود اطلاعي، سواء من كتاب إرتريين، أو من غيرهم، من هؤلاء المفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد رحمه الله، قرأت له فقرة بعنوان (ملف الهوية، والوحدة الوطنية) من مقاله ( الأبعاد الإرترية الحاكمة للعلاقات الخارجية).

لكن الحديث عن هذه الهوية الإرترية، نراه يدور في المجالس الثقافية، والحوارات الجانبية، وأحيانا يبرز على حياء، في وسائل الإعلام، من ذلك اللقاء الذي أجراه مبعوث فضائية (الجزيرة) إلى أسمرا مع بعض المسؤوليين، في نظام الجبهة الشعبية، وبعض الإرتريين، العاملين هناك في مجال الصحافة، وطرح فيه سؤالا، عن هوية إرتريا، ليجد إجابة غامضة، وعائمة، بل ومضطربة، في تقويم من حاورتهم، من المشاهدين، أدخلت المتابع في حالة من الحيرة، والتشوش، وأثارت لديه كثيرا من التساؤلات، حول مفهوم ماهية الهوية الإرترية، والمسؤول عن تحديدها، وتحديد مرجعيتها، وهل من حق طرف أن يفكر فيها بغياب أطراف أخرى، أم أنها مسألة في غاية الحساسية، تستدعي تفكيرا جماعيا؟ إنها تساؤلات تتطلب فيما أعتقد مزيدا من الحوارات الجادة.

وهذا المقال جزء من هذه الحوارات، لكن على الشبكة العنكبوتية، سبق أن لقيت بعض من فقراته قدرا من المداخلات، والتعقيبات، في ندوة ثقافية بلندن، أردت به تنشيط الذهنية الإرترية، واستثارتها، للخوض في نقاش مسألة الهوية، وإثرائها بمزيد من الآراء، والأفكار البناءة، والمفيدة، وتناولت فيه مفهوم الهوية، كما أفهمها، فهو أولا وأخيرا، تعبير عن وجهة نظري، يمثل هويتي، ويعكس شخصيتي، في فهم الهوية، قد أجد من يناصرني فيه، كما أجد من يعارضني، ولكن مهما كان، فالاختلاف في الرأي، لا يفسد للود قضية، والمهم، كل المهم، أن يكتب الإنسان ليفيد، ويستفيد، وباعتبار أن تعريف الشيئ فرع عن تصوره لابد لنا أولا من تعريف مصطلح الهوية، فلسفيا، وسياسيا، لنتخذ منه مدخلا إلى الحوار والنقـاش.

 

معنى الهوية ومدلولها.

 

 وإذا ما أردنا أن نـعـرف معنى مصطلح الهوية، نجده يعني: العلم بحقيقة الذات، ومميزاتها. وهذا ما نص عليه المعجم الفلسفي، في بيان مصطلح الهوية Identity بقوله: يعني حقيقة الشيئ، من حيث تميزه، عن غيره.

 

وفي علم الاجتماع السياسي، تعني الهوية: مجموعة الخصائص، التي يعرف الإنسان بموجبها، علاقته بالجماعة، التي ينتمي إليها، وباللتي يتميز عنها.

 

 وتنطق بضم الهاء، لا بفتحه ( هُـوِيَّـةُ)، لأنها من (هو).

 

وبهذا المفهوم لا تشذ الهوية الوطنية لبلد ما، عن هذا المعنى، فإنها تعبير عن ما يتصف به هذا الوطن، أو ذاك، من صفات، ويتميز من خصائص، تعكس حقيقته، وتحمله على التفاعل، مع من حوله، على النحو الذي ينسجم، مع هذه الهوية.

 

والهوية كما يقول الدكتور جعفر شيخ إدريس في مقال له بعوان ( المواطنة والهوية) منشور بمجلة البيان عدد211 من عام 2005: هي النظارة التي يرى من خلالها المواطنون ما هو مناسب، أو غير مناسب، صالح، أو غير صالح، لوطنهم.

 

وهذا يعني أن الشعوب التي لا تمتلك تصورا واضحا عن هويتها، تعجز تماما عن تشخيص وتحديد مصالحها، وتعيش حالة من التخبط المزمن، والمستمر، وربما فقدت مقومات بقائها. وبين الوطن والهوية تلازم، بمعنى لا بد لكل هوية من وطن تعيش فيه، ولكل وطن من هوية تتجسد فيه، لكن ـ كما يقول الدكتور إدريس ـ إذا كانت المواطنة انتسابا إلى هوية جغرافية، فإن الهوية هي انتساب إلى مثل، وقيم، وثقافة، ومعتقدات، ومعايير، وهي التي تحدد مسار الوطن ووجهته، فكوني إرتريا لا يعني شيئا، ما لم تجسد إرتريا هويتي بنسبة تجعلني أحس بالاطمئنان، والتعادل مع الآخرين، ومن هنا لا معنى لقولنا: نحن إرتريون وكفى، من غير تفسير منطقي وواقعي، لهذه المقولة العائمة.

 

كيف تتشكل الهوية وهل تتبعض وتتجزء، أم أنها كتلة واحدة، إذا ذهب جزء منها ذهب كلها؟

هذا ما سنناقشه في الحلقة القادمة فتابع معنا مشكورا

وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح.

لندن

4/5/2005


الحلقة الثانية

كيف تتشكل الهوية وهل تتبعض؟.

 

كيفية تشكل الهوية.

تتشكل الهوية بأكثر من وسيلة، منها ما هو عنفي، ومنها ما هو سلمي، لكن اعتماد الطريق العنفي في تشكيل الهوية الوطنية، ممن يرى في نفسه القوة والغلبة، فارضا على الآخرين هويته، مهما بدا ناجحا، فإنه معرض للانهيار، متى ما حانت الظروف المناسبة، فالاتحاد السوفياتي مثلا حاول تذويب هويات متنوعة، ومتباينة، وصهرها في بوتقة واحدة، غير أنه أول ما حانت ظروف انهياره، بدت كل هوية على حقيقتها، كذلك الأمهرى في إثيوبيا استطاعوا فرض هويتهم على حد السيف، منذ أن قام مليليك بحملة إخضاع الشعوب الأخرى، وضمها إلى مملكته، لكن نحت إثيوبيا منحى آخر، أول ما سقط نظام الأمهرى، في عهد هيلي سلاسي، ثم منجستو، وبهذا إذا كانت الوسيلة العنفية، قادرة على طمس الهويات المستضعفة لفترة من الزمن، فإنها ليست قادرة على استئصالها تماما، لا سيما إذا كانت هذه الفئات المستضعفة، تحمل روح المقاومة والإباء، أو استشعرت على الأقل حالة الضيم والاستضعاف، التي هي فيها، وعليه أن الوسيلة العنفية في صياغة الهويات، ذات أضرار كبيرة، تفوق أضرارها منافعها، وتبقى الوسيلة السلمية هي الضمان المفضل لتشكيل الهوية الوطنية، ويمكن أن تتحقق هذه الوسيلة، بعقد مؤتمر وطني، تحاوري، يخرج برؤية مشتركة، في صياغة الهوية الوطنية، التي تحترم تعدد الهويات الثقافية، ومشيئة المنتمين إليها، ومن ثم توجه الوطن برمته إلى مسار الازدهار، والتقدم الحضاري، والتنمية المستدامة، وهذا النوع من الحلول هو الذي أشاد به تقرير التنمية البشرية، الصادر عن الأمم المتحدة في 15 مايو 2004 م حيث نص التقرير على ” أن السياسات التي تعترف بالهوية الثقافية، وتشجع التعددية، لا تسبب التجزأة، والنزاع، والتنمية الضعيفة، أو أنظمة الحكم الاستبدادية، وإن مثل هذه السياسات قادرة على الاستمرارية، وهي ضرورية أيضا، لأن قمع المجموعات ذات الهوية الثقافية المحددة، هو الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى التوتر”.

 

تبعض الهوية.

المراد بتعبير (تبعض الهوية) هو بيان أن الهوية ليست كتلة واحدة، غير قابلة للتجزأة، إذا ذهب بعضها ذهبت كلها، كلا، وإنما هي أبعاض وأجزاء، فهنالك الهوية الشخصية، والهوية الدينية، والهوية الثقافية، والهوية السياسية، وهي تلك التي تقوم كما يقول مدير معهد دراسات الإسلام والشرق الأوسط في جامعة أدنبرة البرفسور ياسر سليمان: على موضوع الدولة، وموضوع الأرض، وموضوع السلطة القانونية.

أما الهوية الثقافية فهي تلك التي تنمي في الإنسان روح الإحساس بأهمية الانطلاق، من أصول ثقافته، واتخاذها حكما في التفاعل مع بقية الثقافات، مندفعا نحو التطور في مختلف جوانب الحياة، مجددا لها، ومتجددا معها، منجذبا نحو الإيجابي، ومنقبضا عن السلبي.

وهي بهذا المفهوم ليست انحباسا في الموروث، وتقوقعا في نطاقه، وإنما هي كما يقول جورج لارين في كتابه (الأيدلوجيا والهوية الثقافية) ترجمة الدكتور فريال حسن ” موضوع ينتمي للمستقبل، بقدر ما ينتمي للماضي… هي مصنوعة دائمة، ويعاد تصنيعها، أو يعاد تشكيلها، في داخل الممارسات، والعلاقات، والرموز الموجودة والأفكار” ص 261 ـ 262.

والهوية الثقافية كما تقول المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ( ألكسو) في مقال لها منشور على الشبكة الدولية بتاريخ 27/4/2005 م: تتطلب وجود عدد من العناصر منها:ـ

  • ·   وجود تراث روحي يشعر كل فرد أنه جزء منه، ومكون له في الوقت نفسه.
  • ·   انتماء إلى ثقافة معينة، يشعر كل فرد بالوجود ضمن إطارها، وبالتوحد معها، وبالمشاركة فيها.
  • ·   وجود شخصية اجتماعية محددة، تربط أفراد الأمة بعضهم ببعض، في لغة واحدة، وعادات وتقاليد…

ويذكر جورج لارين في مؤلفه المذكور أن ” تشكيل الهويات الثقافية تفترض مسبقا، معنى الآخر، وتعريف الذات الثقافية، يتضمن دائما تمييزا عن القيم، وسمات، وطرق الحياة، عند الآخر… ومسألة الهوية الثقافية لها علاقة دقيقة بمسألة الهوية الشخصية بمعنيين: المعنى الأول: من المفروض أن الثقافة هي إحدى المحددات الرئيسية للهوية الشخصية. المعنى الثاني: تتسم الثقافة دائما بالاختلاف، أو التنوع العظيم لطرق الحياة…” ص 240 ـ 241

على هذا النحو يلزم فهم الهوية بكل أنواعها، وأصنافها، وإن الإنسان قد يفقد بعضا من أجزائها، ولكن لا يمكن أن يفقد كلها، فقد يفقد زيد من الناس هويته السياسية، لأمر ما، ولكن لا يفقد هويته الاثنية، أو الوطنية، وإذا فقد هويته الاثنية، على مرالزمن بالتزاوج مع اثنيات أخرى، ليس بالضرورة أن يفقد هويته الدينية، أو الوطنية مثلا، وهذا يعني أن للهوية أصنافها وأبعاضها، وما الهوية الوطنية إلا خلاصة هذه الأصناف وأبعاضها، لكن من الناس من تختلط عليه الأمور، أو يتعمد خلطها، فيتطرف في جانب ما، من جوانب الهوية، ليلغي على حسابه بقية الجوانب، وهذا ما نراه في غلاة (الوطنية) عندما يعملون على إلغاء الهوية القبلية، والدينية، أو…الخ، بحجة أنها أمراض اجتماعية، تعيق بناء الهوية الوطنية، في حين أنها ليست كذلك، وإنما هي مظاهر اجتماعية إيجابية، فانتمائي إلى عشيرتي، أو قبيلتي، وعقيدتي، وقومي…الخ لا أراه مرضا ينخر بدني، أو مجتمعي، ما دام في حد الاعتدال، وإنما هو تعبير عن جانب، من جوانب هويتي الذاتية، واعتبار ذلك مرضا اجتماعيا، يعني إلغاء هويتي الذاتية، ونفيها، بكل ما تحمل من تراث إيجابي، يمتد إلى آلاف الأجيال، ومتى نفيت الهوية الذاتية، نفيت الهوية الوطنية، لأن هذه من تلك، كذلك نرى غلاة ( القبلية) أو ( القومية) يغالون في تضخيم الهوية القبلية، أو القومية، على حساب الهوية الوطنية، أو الهوية الدينية، مثلا، وفي سبيل تعزيز الهوية القبلية، أو القومية، لا يمانعون من محو وإزالة الهوية الوطنية، بتفتيت الوطن نفسه، أو إزالة الهوية الدينية، بتنحية الدين وإبعاده، بل ومعاداته، ذلك لما يفترضونه من التنافي والتناسخ، بين جوانب الهوية، أيضا من به خلل في فهم الدين، تنتابه حالات من علل التدين، تحمله على نفي الهوية الوطنية، والنظر إليها نظرة عائبة ومسفهة، لكونه يرى فيها تعارضا مع مفهوم الأمة التي ينتمي إليها، في حين أن لا تناسخ بين الهوية الدينية، والهوية الوطنية، ولا بين جانب وآخر من جوانب الهوية، وإنما تكامل، وتعايش، وإلى هذا أشار أيضا تقرير الأمم المتحدة المذكور آنفا، حيث قال: “إن الأفراد يستطيعون حمل هويات متعددة، مكملة لبعضها البعض، عرقية، ولغوية، ودينية، وإنهم ينتمون بالفعل إلى هذه الهويات المتعددة”.

وهذه المواقف المتطرفة في فهم الهوية، لا بد أن يكون أحدها جاء رد فعل، للموقف الآخر، ومعاكسا له بالقوة نفسها.

 

هل للهوية الإرترية خلفية تاريخية؟ وما أثر هذه الخلفية على مسار تشكيلها؟

هذا ما سنناقشه في الحلقة القادمة فتابع معنا مشكورا.

 

وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح.

لندن

3/5/2005


الحلقة الثالثة

 

الهوية الإرترية والخلفية التاريخية

 

على ضوء ما سبق ذكره من مفهوم الهوية يفترض أن تكون إرتريا بلدا ذا هوية محددة، ومنضبطة، ومفهومة للجميع، وشاملة لكل مكوناته، لكن الواقع غير ذلك، فهنالك غموض، حول الهوية الإرترية، وهنالك تشوش في مفهومها، بين إرتري وآخر، كل يحددها حسب انتمائه الثقافي.

مرة وأنا أسير في ناحية (شفربوش) بلندن، مع ابني، قابلتني وجها لوجه امرأة حبشية مسنة، مرتدية الزوريا، فابتسمت مسلمة علي، وبعد أن أعطت ابني قطعة (حلوى)، قالت لي: (حبشا ديخم؟) فقلت لها: آي كونان، إرتراويان إينا، فردت علي: (أمو حبشا إيخم). هكذا اختلفنا سليقة، في تحديد الهوية الإرترية، من أول مقابلة، ومحادثة عابرة،  فما دمت إرتريا، فأنا إذن حبشي، في نظرها، في حين أنا لا أشاطرها الرأي، ولا أقاسمها الفهم.

وركبت مرة في ليلة من ليالي لندن الباردة سيارة أجرة، ألـ( Mini Cub)  وقُـدِّرَ أن كان السائق إرتريا، من التجرنية، من أسمرا، حديث عهد بلندن، لم يمض على وصوله إليها من البلاد، أكثر من نصف عام، حسب إفادته، سألني أول ما استويت على المقعد، وربطت حزام الأمان: هل أنت صومالي؟ قلت: لا: أنا إرتري. فقال لي: أذن تتكلم التجرنية؟ فقلت له: كلا، أتكلم العربية، والتجري فقط، فقال لي بكل اندهاش واستغراب من جهلي بالتجرنية،  وتحدثي بالعربية: (أمو عرب قانقانا آي خونتن) (ولكن العربية ليست لغتنا)!! هكذا اختلفنا في بداية الأمر، ففي حين هو يرى أن التجرنية هي المميز الأول للهوية الإرترية، ويفترض من تلقاء نفسه، أن يعرفها كل إرتري، وأن العربية ليست لغتنا، نحن الإرتريين، أرى كما يرى كثيرون من أمثالي، خلاف رأيه هذا، فلماذا إذن هذا التباين، في مفهوم الهوية الإرترية، بين إرتري وآخر؟.

للإجابة على هذا السؤال، دعني أعود بك إلى الخلفية التاريخية، والثقافية، لمراحل تكون الكيان الإرتري، ولكن قبل ذلك من المستحسن والمناسب، أن أورد هنا، ما قاله الباحث (جوزف مسعد المحاضر في جامعة كلومبيا بالولايات المتحدة) في كتابه المنشور ( الأردن التأثيرات الاستعمارية وصناعة الهوية الوطنية) حيث ذكر أن ” أربع لحظات تاريخية تساهم في تكوين الهوية، وهي:ـ

أولا: لحظة الاستعمار، حين تؤسس الإدارة الاستعمارية، شكلا من أشكال       الكيانات…

ثانيا: لحظة مقاومة الاستعمار. حين تندلع الثورات، وتؤجج مشاعر الوطنية.

ثالثا: لحظة التوسع والانكماش. انفصال ـ انضمام.

رابعا: لحظة الانفجار الداخلي ـ حرب أهلية ـ نزاعات طائفية، أو عرقية.

  ويمكن أن نلمس هذه اللحظات، أو بعضا منها، في الحالة الإرترية، ونحن نحاول التعرف على سر هذا التباين، في تعريف الهوية الإرترية، من أجل الوصول إلى تصور مشترك، يعيننا على بناء هوية وطنية، متوازنة، ومتوائمة، ومتعايشة.

ففيما قبل العثمانيين، وحتى مجيئهم، ووجودهم، ظلت الهوية للشعوب المضمومة، في هذه التركيبة الاستعمارية (إرتريا) هوية دينية، قبيلية، جهوية (إسليماي أنا، من عد فلان، وأكان فلان) أو (كستيناي أنا، من عد فلان، وأكان فلان) في التعريف بالذات ( أو كستيناي تـ، أو حبشتاي تُـ، من عد فلان تـُ) في التعريف بالمغاير دينا، أو أصلا، أو (إسليماي تـ من عد فلان، وأكان فلان) في التعريف بالمماثل دينا، وثقافة، والمفارق سكنا، وهكذا استمرت حتى دخول المستعمر الأوروبي، وتشكل إرتريا الحديثة، على يديه، مكونة من المناطق الساحلية، التي حكمها العثمانيون، وأيضا تلك التي لم يتمكنوا من الوصول إليها، وبالتحديد منطقة العفر، والهضبة الحبشية (كبسا)، التي عرفت بهويتها الأكسومية، تاريخيا، وسياسيا، وثقافيا، ودينيا.

أعتقد لا يمكن تجاوز هذه الخلفية التاريخية، عند الحديث عن هوية إرتريا، لأنها دائما ما تلقي بظلالها، في تفاعل هوية إرتريا الحديثة، بشكل قوي، وملحوظ، في كل لحظة من لحظات تشكيل هذه الهوية، وبروز ملامحها.

لقد رأينا ذلك في فترة تقرير المصير، حين تضاربت هويتا الكتلتين المتصارعين، من الشعب الإرتري ممثلة في [ الرابطة ـ الانضمام] وأخفقتا في الخروج برؤية موحدة، في تحديد ما هية الهوية الإرترية، سياسيا، وثقافيا، بالاتفاق على هوية محددة، لهذا الوطن المركب تركيبا، من هويات متباينة، من حيث استقلاله أولا، ثم من حيث تحديد وجهته الثقافية ثانيا. ورأيناه كذلك في مرحلة الكفاح المسلح، خلال فترة التحرر الوطني، حيث كانت جبهة تحرير إرتريا، تحمل مفهوم الهوية الثنائية، من حيث الثقافة، واللغة، والطرح السياسي، تأثرا بهذه الخلفية التاريخية، واستصحابا لها، ولأن معظم من بذروا بذرتها، وتعهدوا نموها، هم من الخلفية التاريخية الإسلامية العربية، لم تجد اللغة العربية مشقة تذكر في شق طريقها، تدوينا، وتدريبا، وتحدثا، كما أن ثقافة البيئة الإسلامية ـ  [ ولا حظوا أنا أقول: ثقافة البيئة الإسلامية، ولا أقول الثقافة الإسلامية] ظلت هي الهوية الغالبة عليها، [طبعا هذا عن الجبهة فيما قبل 74 م] فكان تدريب الجندي وحديثه باللغة العربية، وكان شرابه ( الجبنة)، وكان قسمه على المصحف، إن كان مسلما، وكان لكل من المسلم، والمسيحي ذبيحته، إلى غير ذلك، من مظاهر بيئة الثقافة الإسلامية,,, الخ، بحيث تستطيع أن تقول: ظل طابع الهوية الإسلامية، هو الغالب عليها، والبارز فيها نوعا ما، بحكم موقع النشأة والتكوين، وثقافة المؤسسين، ومن هنا ما كان ولدآب ولد ماريام ـ كما حكى عنه الدكتور بيني، في مقابلة له بموقع عواتي، نشرت بتاريخ 30/9/2003 ـ  يرى في الجبهة هويته الثقافية، الأمر الذي دعاه إلى التفكير في إنشاء تنظيم يجسد هويته الثقافية، وبالفعل قام هذا التنظيم، باسم الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، ولكن على يد إسياس أفورقي، وفي هذا التنظيم أخذت اللغة العربية، تتوارى عن الأنظار، شيئا فشيئا، حتى بلغت درجة الاختفاء، في حين أخذت ثقافة البيئة الحبشية، تبرز، وتتضخم، شيئا فشيئا، حتى صارت لها الغلبة العظمى، لتصبح التجرنية لغة تدريب الجندي، وتدوين وثائقه، ولسان حديثه، وليكون (السوى) ذلك الشراب المسكر، أو ما يشابهه، المشروب المفضل، الذي يحتسيه كل جندي، ومسؤول، بعد أن تبوأ منزلة (اللبن)، و(الجبنة)، عند الجندي المسلم، ولتكون القيم الحبشية في العلاقات الاجتماعية هي المهيمنة والموجهة بشكل عام.

 

إن هذا لمن أبين الأدلة على ضرورة الإقرار بما لهذه الخلفية التاريخية، من تأثير مباشر في صياغة الهوية الإرترية، ابتداء من فترة تقرير المصير، التي أشرت إليه، مرورا بمرحلة الكفاح المسلح، وانتهاء بيومنا هذا، حيث عاد الجدل الآن مرة ثانية، حول هوية هذا الكيان المركب، والموروث عن المستعمر، لكن ليس من حيث استقلاله، أو إلحاقه، إلى إثيوبيا، أو تقسيمه، بينها وبين السودان، كما طرح من قبل، وإنما من حيث هويته الحضارية، والثقافية، من غير أن يعني هذا الإقرار طبعا إلغاء دور بقية الكيانات الثقافية، في التأثير على مسار الهوية الإرترية، ولا التقليل من شأنها، مهما كان حجمها. وحيث أن الجبهة الشعبية ما زالت فاعلا مؤثرا، في رسم وتشكيل، ملامح الهوية الإرترية، أعتقد من المناسب الحديث، عن نظرتها إلى الهوية الإرترية.

فما هي إذن نظرة الجبهة الشعبية إلى الهوية الإرترية؟ وإلى أي مسار توجهها؟ ثم ما هي العناصر المفترضة في تحديد وبناء الهوية الإرترية التي تعتمد عليها؟ وما هي أهم خصائصها ومميزاتها؟ وبأي طريقة يمكن التعبير عنها بشكل صحيح وعادل؟

هذا ما سنناقشه في الحلقة القادمة فتابع معنا مشكورا.

وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح.

لندن

11/5/2005


 

الحلقة الأخيرة.

 

هوية إرتريا والجبهة الشعبية.

لكن قبل الحديث عن هوية إرتريا في نظر الجبهة الشعبية، لا بد من التذكير بأن قيادة الجبهة الشعبية، المؤثرة والفاعلة، ذاتها، قيادة تجرنياوية، من حيث تشخيص هويتها الذاتية، وأن التنظيم الذي تقوده، متجرن بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، كما ذكرت آنفا، ذلك أن الهوية الثقافية لكل كيان انعكاس لهوية الجهة التي تسيره، وعدم استصحاب هاتين الحقيقتين الماثلتين أمامنا، ضمن أدوات التحليل، يعني في نظري انعدام الدقة في التحليل، لأنه ـ مهما قيل في هذه القيادة، من مدح، وقدح ـ فإنها لا تخرج في أصل نشأتها، وأسلوب تفكيرها، ودواعي ظهورها، ومنهجية إدارتها للصراع، عن تأثيرات ذلك التباين الحضاري التاريخي، والصراع السلطوي الثقافي، بين الكتلتين المشار إليهما، تستحضره بشكل وآخر، اللهم إلا إذا قيل لنا: إنها هبة العناية الربانية، منزهة عن مؤثرات بيئتها، وظرفها التاريخي!!.

على كل، مهما توارت هذه القيادة خلف مبهمات، وعموميات، وأيدلوجيات، ينبغي تحليل تصرفاتها، ضمن مؤثرات البيئة الإرترية، وتناقضاتها، فمهما قدسها المقدسون، ونزهها المنزهون، أو طعن فيها الطاعنون،  فإنها كغيرها، من القيادات المشاركة، في صياغة الهوية الوطنية، نتاج بيئتها، تحمل معها مخاوف هذه البيئة، وثقافتها، وطموحاتها، بنسب متفاوتة، ولهذا عملت من يوم هيمنت على مقاليد الأمور في الدولة المستقلة، على طبع الهوية الإرترية بطابع هوية بيئتها التجرنياوية، مواصلة النهج نفسه الذي انتهجته، في فترة الكفاح المسلح، بكل ما يتطلب هذا الطبع، من هيمنة سياسية، وثقافية، واقتصادية، وحماية أمنية، وهي بهذا الفعل تمثل في نظري بلا أدنى شك انعكاسا للخلفية التاريخية تلك، وامتدادا واضحا، لمظاهرها التي رأيناها، في صراعات فترة تقرير المصير، وما بعدها.

ومن هنا لا غرابة حين تجعل هذه القيادة من الهوية الإرترية، مفهوما عائما، وطرحا مضطربا، لا ضابط له، وتصر على حذف حق اللغة العربية، والثقافة الإسلامية، ومعها بقية الثقافات، في صياغة الهوية الإرترية، بابتداع فقرة دستورية هلامية، تنص على أن اللغات متساوية، في حين الواقع يؤكد، ويشهد، بأن هذا التساوي، ما هو إلا مجرد حبر على قرطاس، وأن التجرنية وحدها، هي المهيمنة، والرائدة، والمنفردة، بتوجيه المسار الثقافي، والسياسي، ورسم معالم الهوية الإرترية، تماما كما هو الشأن بالنسبة لهيمنة الهوية الإنجليزية البروتستانتية، في الولايات المتحدة، حيث لا نص دستوري ينص على رسمية اللغة الإنجليزية، ولكن الواقع العملي طبع الولايات المتحدة، بطابع ثقافة الأنجلوسكسن البروتستانتية، ولغتهم الإنجليزية، ولذا نرى هنتنقتون،  يقدم في كتابه المنشورWho are we? نقدا مباشرا، للهجرات اللاتينية الأميركية، والسماح بتدريس اللغة الإسبانية، واستخدامها كلغة ثانية، رسمية، في العديد من المدن، والولايات الأميركية، ويعتبر هذا خرقا للهوية الأمريكية، التي يعتقد أنها تقوم على ركائز أربعة، أساسية، هي: العـرق الأبيض، الاثنية الإنجليزية، الدين المسيحي، على المذهب البروتستانتي، الثقافة الإنجليزية، البروتستانتية.

كذلك الحال فيما يتعلق بالسؤال عن ما هية الهوية الإرترية، نرى هذه القيادة ترتضي نهج التعويم، فتأتي الإجابة منها مختزلة في عبارة: نحن إرتريون وكفى!! إذا ما سألها سائل عن هوية إرتريا، من غير أن تقول لنا: ما معنى نحن إرتريون؟ هل لنا أصول تاريخية ننحدر منها، وما هي؟ وانتماء ثقافي يميزنا، وما هو؟ ومنابع هذا الانتماء الثقافي، وما هي؟ وهل لنا منطلقات فكرية ننطلق منها في تحديد مواقفنا، من عالم الأفكار، وفي رسم سياساتنا الداخلية والخارجية، وما هي؟ هل نحن إمتداد للزنجية، أم نحن خليط من السامية، والحامية؟ وما أثر ذلك في صياغة هويتنا وتحديد مواقفنا؟.

ما هي إرتريا؟ ومن هو الإرتري بالتحديد؟ وكيف يمكن ضبط مساره الحضاري؟ باختصار ماذا نعني بقولنا: هويتنا إرترية، ونحن إرتريون وكفى؟ هل العالم يفهمنا بهذا؟ أم أننا نعاني من أزمة ضبط هويتنا، بشكل دقيق؟ ولماذا؟.

 

الهوية الإرترية وعناصر تحديدها.

فيما أحسب أن مقولة نحن إرتريون وكفى، مغرقة في العمومية، مثلها في ذلك، مثل ذاك الشعار العاطفي (شعب واحد وقلب واحد)، وأرى أن الهوية الإرترية الحقيقية، لا يمكن تعريفها بمثل هذه العموميات، وإنما هي تلك التي تعرف الإنسان الإرتري، من خلال أصوله، وأعرافه، وأعراقه، وتقاليده، وثقافاته، ومعتقداته، وقيمه الأخلاقية، وموروثاته التاريخية، ومشاعره الذاتية، ونضالاته الوطنية، وعلاقته بأرضه، وبموجب ذلك تكفل له حقه في السلطة، والثروة، والعدالة، والحرية، لأن ثمة ارتباط قوي ومتين، بين هذه الحقوق، وبين الهوية.

وإذا ما أردنا تحديد عناصر هذه الهوية، على ضوء هذا المفهوم، فلا بد أن نقول: هي: الأرض، والثقافة، واللغة، والمعتقد الديني، والتاريخ المشترك.

إلا أنه لا بد من أن نستصحب معنا ونحن نتحدث عن الهوية الإرترية انطلاقا من هذه العناصر أن إرتريا بوضعها الحالي هي تركة استعمارية، وأن الشعوب المكونة فيها ذات هويات متباينة، وأن مسألة الأرض فيها مرتبطة بالشعب الذي يقطنها أصلا، وبثقافته، وأن ليس بين هذه الشعوب جميعها، تاريخ مشترك، يوحد مشاعرهم، ولا عقيدة دينية تجمعهم، ولا لغة واحدة مشتركة، توحد لسانهم، الأمر الذي يعني أن أهم خاصية من خصائص الهوية الإرترية، تعبيرها عن التنوع، والتعدد، في إطار التوحد، لكن إذا ما أنعمنا النظر إلى هذا التعدد، من حيث الثقافة، والمعتقد، والمشيئة، نجده في نهاية المطاف ثلاثي الأضلاع، يعود إلى الهوية الإسلامية بلغتها العربية، والهوية المسيحية بمختلف مكوناتها المذهبية، والاثنية، أو اللغوية، والهوية الوثنية بموروثاتها الثقافية، ومعتقداتها الشعبية.

ولعل هذا ما فطن إليه أسلافنا عندما جعلوا من العربية، والتجرنية، لغتين رسميتن للبلاد، من بين سائر اللغات الوطنية، باعتبار أنهما أمان توازن الهوية الإرترية، وهذا ما أجمعت عليه اليوم أيضا كافة قوى المعارضة الإرترية، في التحالف الديمقراطي الإرتري، بما في ذلك تلك التي خرجت من رحم الجبهة الشعبية، وتولدت عنها، دون حرمان الآخرين من التمتع بتطوير ثقافاتهم ولغاتهم، واستخدامها، تعبيرا عن هوياتهم، مما يعني أن الهوية الإرترية ترتكز بشكل رئيس، على ثقافتين أساسيتين، هي الثقافة العربية، ببعدها الإسلامي، والثقافة المسيحية، بتباينها المذهبي، والاثني، مع ما هو قائم، من موروث الثقافة الوثنية، وكريم الأخلاق العشائرية، والقبلية.

وعلى أساس الوعي بهاتين الركيزتين، إضافة إلى الوعي بموروثات الهوية الوثنية، ينبغي أن تتأسس السياسة الإرترية، في بناء الذات، وتشكيل هويتها داخليا، وفي تفاعلها مع المحيط الخارجي، وبناء عليه أستطيع أن أقرر، بأن ما تقوله الجبهة الشعبية، عن الهوية الإرترية، يمثل فهما غامضا، معزولا، شاذا، عن الإجماع الوطني، وأن ما تقوم به الآن، من توجيه الهوية الإرترية، نحو الوجهة التجرنياوية، ما هو إلا نوع من التزوير، والطمس للحقائق الواقعية، لن يجلب الاستقرار، ولن تستقيم معه أحوال الشعب الإرتري، لكن الجبهة الشعبية، بالرغم مما انتهى إليه تنظيرها في الهوية والثقافة، إلى تجرنة المجتمع، من حيث الواقع والممارسة، كما هو ماثل أمام الجميع، ظلت تؤكد على الصعيد النظري، بأن البقاء والنمو حق مصان لجميع الثقافات، واللغات الوطنية، وأنها بمجملها مصدر تشكيل الهوية الإرترية، وقاعدة بنائها، وانطلاقا من هذا اعتبرت ـ كما جاء في مجلة ساقم، لسان حال الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، العدد 17 دسمبر 1988 م ص 12 ـ بأن( الإفلاس السياسي، والبحث عن دور سياسي، عن طريق الودعاء، بتمثيل عواطف، لمواطن معينة، هما الكامنان، وراء تركز الحديث، عن الثقافتين، المتقابلتين، للشعب الإرتري، واللتين تنتظران، حسب هذا الادعاء، وفاقا بينهما، يتم باتفاقات سياسية). و عليه تقرر المجلة في العدد نفسه بأن (ليس ثمة تشويه، لهوية الشعب الإرتري، وثقافته، وأهدافه، أكثر من هذا).

ثم تمضي لتقول: ( إن الجبهة الشعبية، لم تلزم أية قومية، بالتعلم باللغة الأم مثلا، حيث كفلت حق التعلم، بأي لغة تختارها، واختيار اللغة العربية، في هذه الحالة، لا يعني القضاء، على اللغات الأخرى).

بين هذا التنظير المسطور على صفحات (ساقم)، وبين ما هو واقع الآن، وممارس، من الهيمنة التجرنياوية، بكل أبعادها، في ظل إستقلال إرتريا، من البعد الزمني ما يقدر بـ17 عاما، (سبعة عشر عاما)، وعند النظر إلى هذا الواقع الممارس، وتقويمه، لا بد أن أتساءل، مستعيرا تعبير المجلة نفسها، ويتساءل معي أيضا كل حر أبي: هل (ثمة تشويه، لهوية الشعب الإرتري، وثقافته، وأهدافه، أكثر من هذا؟!!)، وأضيف فوق ذلك، هل فعلا أن ذاك الكاتب، أو ذاك المنظر، في مجلة ساقم، كان يقرأ واقعا، أم كان يعيش أحلاما؟!!. أم كان مضللا، أم كان يمارس تضليلا؟!!.

من المحال أن تقدم الجبهة الشعبية تجربة واحدة من تطبيقاتها، في تاريخ وجودها السياسي، على تكامل الثقافات، واللغات الوطنية، ومساواتها فعلا، على كافة الأصعدة، سعيا إلى تشكيل هوية وطنية، متوائمة، ومتوازنة، ما عدا ميدان الرقص، واللهو، والغناء، ها توا برهانكم، إن كنتم صادقين، حتى مجلة ساقم التي نقلت منها تلك النصوص، وناقشت هذا الموضوع تحت عنوان ( الثقافة الوطنية أم الثقافتان) عرضت تحت عنوان المقال: صورة رقصة شعبية للبجا (الهدندوا والبني عامر)، لأنها لم تجد مجالا تبرزه، غير مجال الرقص، ولن تجد أبدا، فهل هذا ما تعنيه بالمساواة؟!!.

هل ثمة دليل أكبر، وأوضح، من هذا الواقع المشاهد، على انتفاء مصداقية هذا التنظير، في ميدان التطبيق ؟ وهل من شك بعد النظر في هذا الواقع، على أن صراع الهوية، بين الإرتريين، يعود في جذوره وأصوله إلى هاتين الثقافتين المتقابلتين، وهاتين اللغتين الرسميتين، ولا بد من الوفاق بينهما لتشكيل الهوية الإرترية، وإبراز ملامحها الحقيقية، بدل تنحية إحداهما، لاستئثار الأخرى بالساحة الثقافية، والسياسية، من دون أن يعني هذا طبعا إلغاء، أوقتل، وتهميش سائر الثقافات، واللغات الوطنية؟.

دققوا معي النظر في مقولة كاتب مجلة ساقم ومنظرها، حين يقول وهو يقرر حق القومية في التعلم بأي لغة تختارها: ( واختيار العربية، في هذه الحالة، لا يعني القضاء، على اللغات الأخرى).

فعلا ـ كما قال ـ إن إختيار اللغة العربية، لغة التعليم، لا يعني القضاء، على اللغات الأخرى، وما قال أحد بهذا، وما هو بمتصور، ولكن لست أدري، لماذا تحول الآن (الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة)، بين إرادة المجتمع، واختيار اللغة العربية، لغة تعليم وثقافة؟!! وما الذي منع منظر ساقم من أن يقول بالمنطق نفسه: واختيار العربية، والتجرنية، لغتين رسميتين، من بين سائر اللغات الوطنية، وتضمين ذلك في دستور وطني، لا يعني القضاء على اللغات الأخرى، ولا على الثقافات الأخرى، ولا يعطل إسهاماتها، في تشكيل الهوية الإرترية، والثقافة الوطنية الجامعة؟!!.

وأفضل تجربة بشرية للتعبير عن الهويات المتعددة، في مثل محيطنا الإرتري، هي تجربة الحل الفيدرالي، وهذا ما تضمنه تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة الصادر في 15 مايو 2004 حيث أوصى” الدول والمجتمعات ذات الأقليات الاثنية، أو اللغوية المتعددة، والمتجمعة جغرافيا بفدرالية غير متكافئة، كسبيل للتعامل مع مجتمع متعدد الثقافات، فهذا النظام يعطي سلطة لبعض الأجزاء ولكن ليس بقدر متماثل، فبعض المناطق تضم أجزاء ذات حكم ذاتي أكثر من المناطق الأخرى، ويمكن للولايات الفيدرالية أن تحوي أشكالا متميزة في هياكلها السياسية والإدارية والإقتصادية، ويكاد لا تكون هناك ديمقراطية ذات تنوع ثقافي تخلو من هذا النوع من الفيدرالية، فبلجيكا، وكندا، وإسبانيا، وسويرا أمثلة على ذلك.

ويعتمد نجاح الفيدرالية على البناء المتأني لها، والإرادة السياسية لتعزيز أدائها الديمقراطي، فالمهم أن يتم تبني واستيعاب الاختلافات المهمة وفي الوقت نفسه إرساء الأساسات للولاء الوطني، …”

 

وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح

لندن

16/5/2005


روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6189

نشرت بواسطة في مايو 4 2005 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010