الاعتراف بالجبرتي !!

بقلم : عبد السلام إبراهيم

أصدرت الحركة الفيدرالية الإرترية في مؤتمرها الأول المنعقد في ديسمبر2004، قراراً بـ “الاعتراف الرسمي لقومية الجبرتة الإرترية كمجموعة إثنية قائمة بذاتها منفصلة عن قومية التقرينية من سكان المرتفعات المسيحيين والذين يتحدثون باللغة التقرينية”، وذلك حسبما جاء في نص القرار الذي نشر في ” قبيل. كوم ) . واتخذ حزب النهضة الإرتري الذي تأسس حديثًا موقفاً مماثلاً.

وإذا كان قرار الحركة الفيدرالية قد لقي ترحيبًا من البعض الذي رأى فيه قراراً صائباً وشجاعاً وإحقاقاً للحق تجاه فئة من الشعب الإرتري أصابها الكثير من الظلم في تاريخها ثم تم تجاهلها وتجاهل دورها، بل والتحامل عليها في إرتريا المستقلة، بيد أن هناك من استقبله بكثير من الدهشة والاستغراب والتساؤلات. ولم تخل الساحة ممن استنكر القرار وأبدى مخاوفه من أن يكون مقدمة لتفتيت إرتريا!!

ولكن، لماذا اتخذت الحركة الفيدرالية هذا القرار ؟ ولماذا سار حزب النهضة على نفس النهج ؟

تبدأ القصة عندما عنَّ للجبهة الشعبية لتحرير إرتريا بتقسيم الشعب الإرتري إلى قوميات، فقامت بتقسيم غير علمي متخذة من اللغة، واللغة فقط، أساساً لذلك التقسيم. فتحولت بذلك تلقائياًّ كل المجموعات اللغوية إلى قوميات !! ولو ظلت دراستها هذه مجرد دراسة قابلة للنقاش والأخذ والرد، لما كانت ثمة مشكلة. ولكن المشكلة ظهرت بعد التحرير، حينما قامت الجبهة الشعبية باعتماد دراستها وتطبيقها خلال إجراء الاستفتاء على الاستقلال، دون طرحها على الشعب والمختصين للنقاش ودون الاستئناس برأي المجموعات البشرية موضع التقسيم. ففي الاستفتاء الذي جرى في العام 1993 حول الاستقلال ، فرضت الحكومة المؤقتة على الذين يدلون بأصواتهم تحديد “هويتهم القومية”، ضمن معلومات أخرى طلب تسجيها في استمارة أُعدت خصيصاً. وقد فجر التقسيم خلافات داخل البلين والساهو واستنكاراً شديداً من الجبرتي الذين شعروا بالإهانة حينما منعوا من ذكر “هويتهم الجبرتية” التي لا يعرفون إلا بها كمكون بشري ضمن مكونات الوطن الإرتري. وروى بعضهم بمرارة أنه وفي العديد من اللجان كانت تشطب كلمة “جبرتي” حينما يصر أحدهم على وضعها في الاستمارة. وقد أحدث هذا التعنت من حكومة إسياس رد فعلٍ عنيف لدى قطاع كبير منهم للدرجة التي صاروا يؤكدون فيها بأنهم قومية قائمة بذاتها متخذين مما كتبه المرحوم الدكتور ياسين أبرَّا قبل ذلك بسنين في ظروف مشابهة، حجة لدعم ما ذهبوا إليه. ومما زاد الأمر اشتعالاً أن بعضاً منهم ممن أحسن الظن بالحاكم، توجهوا إليه يطلبون منه الاعتراف بالجبرتي كقومية، فما كان منه إلا أن أمر باعتقالهم في المطار، وهم يتأهبون للمغادرة إلى السعودية التي قدموا منها. أحدث أمر اختفائهم من المطار البلبلة إلى أن تأكد بأنهم يقبعون في أحد سجون النظام. وقد تسبب هذا العمل الأحمق واللامسؤول في غضب جماعي لدى الجبرتي وإلى تعاطف محلي ودولي معهم كأقلية مضطهدة.

واضحٌ إذاً أن قرار الحركة الفيدرالية وحزب النهضة كان استجابة للرغبة التي ظل يعبر عنها بعض الجبرتي بعد تلك الأحداث، للاعتراف بهم كقومية قائمة بذاتها.

والسؤال الذي يلح على المرء هو : لماذا اتخذت الحكومة الإرترية المؤقتة أساساً، قرار تقسيم الشعب الإرتري إلى قوميات؟ فهل كانت ثمة ضرورة لذلك حقاًّ ؟! ثم لماذا كان الإصرار لأن يسجل كل مشارك في الاستفتاء قوميته، قبيلته، ديانته … إلى آخر القائمة؟ وحتى لانقول بأن الحاكم ربما رأى أن ثمة ضرورة ملحة ومستعجلة من أجل الإحصاء، حتى يعرف الإرتريون أنفسهم بدقة، فحسب علمنا فإن أياًّ من تلك المعلومات لم تنشر حتى الآن، بل أنها لم توضع حتى في متناول الباحثين والأكاديميين !! الأمر الوحيد الذي نتج عن هذا التقسيم كان إثارة الخلافات والتوترات والانقسامات داخل بعض التجمعات الإرترية التي عناها التقسيم كما أسلفنا ! إذاً، أكان ذلك هو هدف الحاكم ؟ ليس من المستبعد أن يكون قد أراد اقتفاء أثر نظام “الدرق” الذي قام بتقسيم شبيه للإرتريين إلى قوميات، أثار في حينه خلافات مماثلة، فكتب المرحوم الدكتور/ ياسين أبرَّا بحثه المثير للجدل عن الجبرتي. ولكن قد تكون لإسياس أيضاً أهداف خفية ما دام قد أخفى النتائج واحتفظ بها لنفسه.

ولكن وبعيداً عن الفعل الأحمق للنظام وردود الأفعال الغاضبة والمتطرفة أحياناً، دعونا ننظر بعمق وروية لـ ” المسألة الجبرتية ” إن جاز التعبير .

أطلق اسم الجبرتي في البداية على الذين اعتنقوا الإسلام من سكان الهضبة الإثيوبية، ولكنه استقر في النهاية ليحمله المسلمون المتحدثون بالتقرينية في شمال إثيوبيا والمرتفعات الإرترية. ويختلف الباحثون حول مصدر الاسم، فثمة من ينسبه إلى الرسول (ص)، حيث يُروى بأنه قد قال ” جبروني مرتين ” في إشارة إلى مسلمي الحبشة الذين جبروه ( ساندوه ) حينما اعتنقوا الإسلام أولاً ثم حينما قاتلوا إلى جانبه ضد أعدائه من قريش، فانتصر عليهم. بيد أن رواية محلية تعيد أصل كلمة جبرتي إلى الكلمة الجئزية ( أجبرت ) والتي تعني عبد الله، في إشارة إلى تمسكهم بدينهم وعقيدتهم الدائم، أو كما يقول ” بوليرا ” نقلاً عن Cerolli بأنه من المؤكد تقريباً بأن اسم الجبرتي اسم قديم وخاص لقبيلة محلية عُمم فيما بعد على كل مسلمي الحبشة. بينما هناك مصادر تؤكد بأن الاسم يشير إلى سكان عاصمة إمارة إيفات (جبرت) في إقليم زيلع، والتي كانت أكبر إمارات الطراز الإسلامي السبع، حيث تشتت سكانها وتفرقوا في كل اتجاه بعد سقوطها في القرن الرابع عشر الميلادي ( وهو بالمناسبة نفس القرن الذي قدم فيه الأخوان “أدكمي” و” ملقا ” من لاستا واستوطنا ما يعرف اليوم بإقليم سرايي) فعبر بعضهم، أي بعض سكان إمارة إيفات، البحر نحو اليمن والحجاز واتجه بعض منهم إلى الجنوب فاستقر في الصومال وأخذ آخرون طريقهم، وربما كان الأكثرية، نحو الهضبة، حيث استقروا في شمالها فيما يعرف اليوم بإقليم تقراي في إثيوبيا وكبسا ( المرتفعات) في إرتريا، حيث وجدوا فيها مسلمين اعتنقوا الإسلام على يد الصحابة الذين التجأوا إليها هرباً من بطش قريش في بداية الدعوة المحمدية في العام 615م، فاختلط القادمون من جبرت والمسلمون من أهلها وصاروا مع مرور الزمن شعباً واحداً يطلق عليه اسم ” الجبرتي “. وثمة رواية تتحدث عن أن إمارة إيفات قد قام بتأسيسها قومٌ هاجروا من الحجاز من قبيلة الجبرت التي تنسب إلى عقيل بن أبي طالب، فأخذت عاصمتها اسمها من اسم تلك القبيلة. وتعارض رواية أخرى ذلك، بأن الذين قاموا بتأسيس إيفات والتي سميت عاصمتها باسمهم هم من الجبرتي الذي أسلموا على يد الصحابة وتحولوا إلى دعاة للإسلام، حيث اتجهوا نحو الجنوب وأسسوا إيفات ( الجبرتي)، وما أولئك الذين يسمون بالجبرت في الحجاز إلا جزءاً من سكان إيفات الذين هاجروا إليها بعد سقوطها. ولا يجب أن نستغرب من هذا الاختلاف، فهو حادث في أصول كثير من المجموعات البشرية، ولا سيما في إفريقيا، حيث التاريخ في الغالب الأعم غير مسجل ويتناقله الناس شفهياًّ. وأياًّ كان الأمر فكل هذه الروايات تؤكد حقيقة واحدة، وهي أن الجبرتي ظلوا يعرفون بهذا الاسم وعلى هذه الأرض منذ القدم، أي منذ أكثر أو أقل قليلاً من الألف عام. والجبرتي أقلية دينية في الهضبة يشتركون مع الأغلبية في الأرض واللغة وفي كثير من العادات والتقاليد، ولكنهم، ولكونهم أقلية فقد تعرضوا خلال تاريخهم للظلم والاضطهاد على يد الأباطرة الإثيوبيين والحكام المحليين على حدٍّ سواء، حيث سنت قوانين تجعل منهم على أرضهم مواطنين من الدرجة الثانية، لكونهم فقط مسلمين. وربما كان الأكثر قرباً للأذهان والأكثر قسوة وبشاعة ما تعرضوا له على يد الأمبراطور يوهنس الرابع ( 1835-1889) الذي قرر توحيد الأديان في إمبراطوريته على المذهب المسيحي الأرثوذكسي (توهدو). وكان المسلمون، وخاصة المسلمين الجبرتي، القاطنين في المناطق الواقعة تحت الحكم المباشر ليوهنس هم أكثر من عانوا من قوانينه الجائرة. وبسبب تمسكهم بدينهم اضطر كثير منهم إلى ترك ديارهم والهجرة إلى حيث يجدون الأمان. ومن بقي منهم عاش في رعبٍ دائم يربط “المعْتَبْ ” في عنقه في النهار، ليتظاهر بنصرانيته – حسب قواني يوهنس – ثم لينزعه في المساء حتى يمارس شعائره الدينية خفية وتحت جنح الظلام. و” المعْتَبْ ” عبارة عن خيط على شكل ضفيرة ( أسود أو كحل اللون) أمر يوهنس أن يربطه كل رعايا دولته على أعناقهم !!

وبسبب الاضطهاد الطويل الذي تعرض له الجبرتي، شبه بعض الكتاب الأوربيين، ومنهم البرتو بوليرا، معاناتهم بمعاناة اليهود في أوروربا. فرضت عليهم هذه المعاناة والعزلة الطويلة التي أرغموا عليها، أن يكونوا أكثر تآزراً لمواجهة محنتهم، خلال ذلك الليل الطويل الذي عاشوه. ولاشك بأن القرون الطويلة من الاضطهاد والعزل، قد خلقت لديهم مزاجاً نفسياًّ قد يختلف قليلاً أو كثيراً عن الأغلبية الدينية في منطقتهم، بجانب أن للثقافة الدينية ، أي دين ، تأثيرها الذي لا ينكر في الحياة اليومية لمعتنقيها. وقد يختلف مدى ذلك التأثير عند هذا الدين أو ذاك وعلى الشعوب المختلفة التي تعتنقه والتي تعيش في مواقع وظروف مختلفة. بيد أن كل هذا لا يغير من حقيقة أن العادات والتقاليد والثقافة المتوارثة عبر القرون للذين ينتمون لنفس الأرض ويشتركون في نفس اللغة تظل في جوهرها نفسها، رغم تأثيرات العقائد المختلفة التي ينتمون إليها والشعائر التي يمارسونها. وهذا الحال ينطبق على كثير من البلدان التي تعيش فيها أقليات دينية وسط أغلبية لا تختلف معها إلا في الدين، مثل الأقليات المسيحية في عدد من البلدان العربية كسوريا ومصر ولبنان والأقلية المسلمة الأمهرية في مجتمع الأمهرا في إثيوبيا… إلخ. ولكن أيضاً من البديهي أن هذا التوافق لا يلغي أن تكون للأقليات الدينية هذه مطالبها الخاصة حينما تشعر بأنه قد أجحف بحقها وطالها الظلم من قبل الأغلبية. بل وقد يحدث أيضاً حينما لم يُصغ إلى مطالبها ويُتمادى في اضطهادها وتجاهلها ، أن تكون لها ردود أفعال غاضبة للدرجة التي تنفي فيها وجود أية علاقة لها تاريخية كانت أو اثنية أو ثقافية مع من تشعر بأنه يستمرء هضم حقوقها وإذلالها . والتاريخ يحدثنا عن أمثلة كثيرة على مثل ردود الأفعال تلك.

وعلى الرغم من أن المسلمين في إرتريا ليسوا بأقلية، إلا أن معاناة الجبرتي كأقلية دينية في منطقتهم تسبق بقرون نشأة إرتريا وظهورها ككيان قائم بذاته تشمل مناطق إسلامية شاسعة في العام 1890. ومازال الجبرتي يشعرون بأن ذيول ذلك الاضطهاد مستمرة حتى اليوم بأشكال مختلفة. وللأسف، فإن النظام الذي قام في إرتريا بعد الاستقلال، ليس فقط لم يتصرف بما يزيل مثل ذلك الإحساس ويشيع الاطمئنان في نفوسهم ونفوس الإرتريين الآخرين الذين تعتريهم أحاسيس مشابهة، ولكن على العكس قام بكل ما من شأنه أن يزيده رسوخاً. فتصرفات رئيس النظام الغريبة ولا سيما تجاه الجبرتي، حولت شكوكهم فيه إلى يقين. في البداية شعروا بشيء من المرارة والاستياء حينما قام رأس النظام، بعد التحرير، بتكريم رواد النضال الوطني في الأربعينيات إبراهيم سلطان وولدآب ولدي ماريام، وأغفل تكريم الشهيد عبد القادر كبيري الذي يعتبر أبو شهداء النضال الوطني من أجل الاستقلال. ثم صار بعد ذلك، أي رأس النظام ، لا يترك فرصة تمر دون أن يسيء إليهم بالتصريح أحياناً وبالغمز أحيانا أخرى. ونعتقد أن الجميع أدرك من كان يعني في رده على فتاة مسلمة سألته، متحدثة بالتقرينية، عن وضع اللغة العربية في إرتريا، خلال اجتماع عام عقده في الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الأولى لحكمه !!! وقد لقي ذلك الرد اللامسؤول استهجاناً من كل الإرتريين الذين يحرصون على صفاء العلاقة بين مكونات هذا الوطن المبنية على الاحترام المتبادل. وفي العام المنصرم تقرر هدم حي ” حديش عدي ” في مدينة مندفرا، وسكانه كلهم مسلمون والغالبية الساحقة منهم من الجبرتي، وذلك بحجة أن مساكنه عشوائية وفي قلب المدينة، حيث يجب أن تحل محلها مساكن حديثة من أربعة طوابق. وبالفعل تم تسوية مساكن الحي بالأرض دون توفير مساكن أخرى يأوي إليها أصحابها المشردون، وخصصت لهم فقط أراض على أطراف المدينة مع تعويضات مالية طفيفة لا قيمة لها. وفي الحقيقة فإن هذا هو الأسلوب الذي يتبعه النظام في مثل هذه الحالات، حيث يكون وضع المواطن ” المهجر ” آخر ما يشغل بال صاحب القرار. ولكن الذي أثار حنق المسلمين في إرتريا بل واستنكار كثير من الإرتريين غير المسلمين هو قيام السلطات بهدم أربعة مساجد في الحي بعد أن تم محاصرتها بوحدات عسكرية مدججة بالسلاح، والتي لم تنسحب ، إلا بعد أن تركتها ركاماً، بما فيها من مصاحف وكتب دينية. وتؤكد مصادر قريبة من مواقع السلطة ، بأن الديكتاتور كان يتابع لحظة بلحظة من أسمرا عملية هدم المساجد، ولم يرتح له بال إلا بعد أن تلقى بلاغ نجاح العملية !!!! ويعود بناء أحد هذه المساجد إلى تاريخ نشأة مدينة مندفرا مع مجيء الاحتلال الإيطالي، وتحولها إلى عاصمة لإقليم سرايي، أي إلى ما يزيد عن المائة عام.

لاشك أن الناس قد تساءلوا في تلك اللحظة التي كان يتم فيها هدم المساجد، هل عاد يوهنس الرابع من جديد ؟!!

كل هذا الاستهداف يؤكد لنا بأن النكتة التي أطلقها مقدم البرنامج المعروف نقوسي هيلي منسعاي منذ سنوات في أحد مهرجانات كاسل السنوية، عن مرض ” الجيم ” الذي أصاب إسياس أفورقي من شدة كراهيته لـ ” جبهة ” “جبرتي ” جبلي “( العرب )، وذهب بسبب ذلك إلى إسرائيل للعلاج، لم تأت – أي النكتة – من فراغ. ويبدو أن صاحبها كفنان قد انتبة مبكراً لما لم ينتبه إليه كثيرون إلا بعد زمن طويل.

وأمام كل هذا فإن السؤال الذي يقفز إلى الذهن هو: ما العمل ؟ أجل ما العمل من أجل وضع حدٍّ لكل هذه الإهانات وهذا الاستهداف المستمر من قبل الطاغية ؟ والرد المنطقي والسريع الذي يتبادر إلى الذهن أيضاً : هو النضال ثم النضال، إذ ليس ثمة وسيلة أخرى لوضع حدٍّ للظلم والقهر سوى النضال، فهذا ما يعلمه لنا التاريخ .

ولكن كيف يكون النضال وبأي أسلوب ؟

صحيح أن رأس النظام – ربما لعقدة في نفسه، يعرفها هو، يستهدفهم أكثر من غيرهم، إلا أنه وفي هذه المرحلة التي نعيش فيها نستطيع أن نقول دون أن نجافي الحقيقة، بأن الغالبية العظمى من الشعب الإرتري تتمنى رحيل هذا النظام الذي حولة حياتها إلى جحيم. ولأن الأمر كذلك ، فإن أعداداً كبيرة من قيادات وكوادر النظام ومن الجماهير التي كانت مخدوعة به، قد حولت اتجاهها وصارت جزءاً من القوى المعارضة، تلك القوى التي أدركت مبكراً طبيعة النظام ولم تكف يوماً عن مواجهته. والأولى بالجبرتي، وهم الذي اكتووا بنار النظام منذ البداية ولم تخدع غالبيتهم العظمى به، أن يضموا جهدهم إلى جهد كل القوى المخلصة التي تناضل في سبيل إزاحته وأن يحولوا غضبهم العارم إلى عمل دؤوب لتعزيز النضال الذي يخاض لإقامة نظام ديمقراطي بديل على أنقاض النظام الديكتاتوري الذي يتحمل آثام ما يعانونه، وتشاركهم في معاناتهم ومعاداته اليوم، الغالبية العظمى من الإرتريين. ولا طريق آخر أمامهم – من وجهة نظرنا – غير هذا الطريق إذا أرادوا التخلص من الظلم والإهانة التي يمارسها ضدهم هذا النظام منذ صعوده إلى سدة الحكم. وفي هذا يجب أن يقتفوا أثر آبائهم وأجدادهم ويسيروا في الطريق الذي ساروا عليه.

على الجبرتي والشباب منهم على وجه الخصوص والذين هم من أكثر المتحمسين للمطالبة بحقوقهم، أن يعرفوا تاريخ آبائهم وأجدادهم الناصع في النضال من أجل الاستقلال الوطني الإرتري. فلقد كانوا في مقدمة الصفوف في بداية الاربعينيات للمطالبة بحقوق الإرتريين التي داس عليها الاستعمار الإيطالي وحنث الإنجليز بوعدهم لإعادتها إليهم. فـ ” محبر فقري هجر ” ( جمعية حب الوطن ) التي قامت للمطالبة بحقوق الإرتريين كأول منظمة سياسية إرترية، رأت النور في العام 1941 من خلال الاحتماعات التي كانت تعقد في بيوت محمد أبرَّأ حقوص وآدم قسم الله. وكان الشهيد عبد القادر كبيري الذي انتخب نائباً لرئيسها قري مسقل ولدو ، هو الذي وقع عليه الاختيار ليتحدث باسم الإرتريين جميعاً للحاكم العسكري البريطاني حتى يفي بما وعدت به حكومته. وأربعة من قيادة الجمعية، التي كانت تتكون من اثني عشر شخصاً، كانوا من الجبرتي، وهم بجانب عبد القادر كبيري، دجيات حسن علي ، والحاج إمام موسى، وبرهانو أحمد الدين. ويشهد التاريخ لهؤلاء جميعاً بأنهم انحازوا لمطلب الاستقلال تحت راية الرابطة الإسلامية، بعد أن تحول ” محبر فقري هجر ” إلى منظمة مطالبة بالوحدة مع إثيوبيا. وقد سقط عبد القادر كبيري شهيداً برصاص حزب إثيوبيا. أما الحاج إمام موسى فقد بقي حتى نهاية عمره المديد الذي تجاوز المائة عام يجاهر بعدائه للاحتلال الإثيوبي لهضمه لحقوق الإرتريين، حتى أنه قد ألقي به في السجن وهو في الثمانينات من عمره. ونستطيع أن نقول دون أن نخشى الاتهام بالمبالغة، بأن جُلَّ الجبرتي وقفوا منذ البداية وحتى النهاية مخلصـين لمطلب الاسـتقلال. وبالطبع فإن لهذا الاصـطفاف الفريد أسـبابه التاريخية التي نجدها في ما أوردناه عن معاناتهم تحت حكم الأباطرة الإثيوبيين ومعرفتهم، ربما أكثر من غيرهم، في أي وضع كان يعيش المسلمون تحت حكم هيلي سلاسي في إثيوبيا في ذلك الحين. وبسبب صمودهم على موقفهم عانوا أكثر من غيرهم من الاستقلاليين، لكونهم أقلية مطالبة بالاستقلال تعيش وسط أغلبية تطالب بالوحدة مع إثيوبيا. ومع ذلك واصلوا نضالهم مع بقية الإرتريين من مختلف الانتماءات لتحقيق هدفهم الذي لم يحيدوا عنه أبداً، متحملين بصمود في سبيل ذلك الهدف المقدس، كل العدوان الذي كان يقع عليهم من عصابات حزب ” الوحدة ” والذي كان الشهيد عبد القادر كبيري أبرز ضحاياه. وقد تحدث ترافاسكس ، في كتابه ” إرتريا مستعمرة في مرحلة الانتقال “، متناولاً تلك الفترة عن الأقلية المسلمة من أبناء سرايي الأشداء، الذين تمكنوا من إثبات وجودهم بدعم من الساهو والبني عامر الذي كانوا يشاركونهم نفس الأهداف.

وحينما قامت حركة تحرير إرتريا في العام 1958 كان شباب الجبرتي في مقدمة الذين انضموا إليها في العاصمة وفي المدن الرئيسية الأخرى. ولنشاطاتهم المكثفة استضافت سجون النظام أعداد كبيرة منهم.

وبعد أن خرقت حكومة هيلي سلاسي بنود الاتحاد الفيدرالي وبدا واضحاً عزمها على إلغائه وضم إرتريا إلى إثيوبيا وفجر الشهيد حامد إدريس عواتي الكفاح المسلح تحت راية جبهة التحرير الإرترية، لم يتأخر الجبرتي ، كدأبهم ، في الانضمام إليها بتنظيم أنفسهم في خلاياها السرية ليكونوا عمادها في مدن المرتفعات الهامة مثل أسمرا ومندفرا، عيون تراقب وآذان تسترق السمع وأقدام تتحرك في أخطر مناطق العدو وأكثرها صعوبة على الاختراق في سبيل جمع المعلومات للفدائيين الذي قضَّوا مضجع العدو في تلك السنوات الأولى من الكفاح المسلح. وبسبب ذلك النشاط وضعوا تحت المراقبة وتعرضوا للسجن والتعذيب كغيرهم من النشطاء الإرتريين. ويوضح لنا سجن عدد كبير من التجار الجبرتي في مدينة مندفرا والحكم بالإعدام على عدد منهم في الستينات، نذكر منهم محمد نور خليفة، بسبب دعمهم لجبهة التحرير الإرترية ، إلى أي مدى كانوا منخرطين في العمل النضالي. ولم يتخلف شبابهم عن الالتحاق بجيش التحرير الإرتري، فقد كانت الجبهة وكان جيش التحرير أمل الإرتريين جميعاً ولهم على وجه الخصوص ليتخلصوا من ذلك الظلم الذي ظل يلاحقهم منذ عهود طويلة. ويكفي أن نذكر هنا، على سبيل المثال، شباب مسيام الذين التحقوا بالجملة بجيش التحرير، فعوقبت القرية بإحراقها وذبح كهولها وتهجير نسائها وأطفالها خلال مذابح 1967.

نحن نتفهم ما تشعر به هذه الفئة من الشعب الإرتري اليوم من خيبة أمل وإحباط وغضب، حينما تجد بعض السفهاء وعلى رأسهم رأس النظام ينكرون كل هذه النضالات وكل هذا التاريخ المليء بالتضحيات وينشرون الأكاذيب حول سلبية الجبرتي وعدم مشاركتهم في النضال الوطني من أجل الاستقلال. ويزيدهم غضباً وإحباطاً ترديد الكثيرين من “الأميين” الذين لا يكلفون أنفسهم بقراءة التاريخ، وتاريخ النضال الإرتري على وجه الخصوص، كالببغاوات أكاذيب إسياس وأتباعه.

ولكن هل يكون الرد على هذه الافتراءات والإهانات بالتقوقع والانعزال عن الركب المقاوم للظلم والاضطهاد والذي كان أباؤهم وأجدادهم دوماً في مقدمته كما رأينا ؟ ألا يخدم هذا الموقف إسياس وزمرته ليجيروا أكاذيبهم عنهم حتى تبدو وكأنها الحقيقة ؟!

وهل يكون الرد على الافتراءات بالمطالبة بالاعتراف بهم كـ “قومية” قائمة بذاتها، كما يصر البعض؟! ولكن ألا ترون أن في هذا المطلب في حد ذاته إهانة للجبرتي أنفسهم ووقوع في الفخ الذي نصبه لهم إسياس. فمن يعترف بمن ؟!! إن الجبرتي على هذه الأرض منذ القدم ويحملون اسمهم هذا منذ مالا يقل عن عشرة قرون، ولا يستطيع كائناً من كان أن ينزعه عنهم! فإذا شكك فيهم بعض المعتوهين وحاول تجاهلهم حاكم لا يقل عنهم جنوناً يجد لذته في تعذيب شعبه، فلا يجب قط أن يلتفتوا لذلك. ثم أن تلك التقسيمات التي وضعها النظام للمكونات البشرية للوطن الإرتري على أساس القوميات لم تتعدَّ أوراق الاستفتاء، لأنها ببساطة تصنيفات مصطنعة ومستوردة لتطبيقها قسراً على الواقع الإرتري !! لذا فما زال الجبرتي جبرتي رغم أنف إسياس، وما زال الانتماء للقبيلة و الـ ” إندا ” والـ ” أوراجا ” بقوته التاريخية ويخرج لسانه سخرية من تصنيفات الديكتاتور، وما زالت التقرينية والتقري تعريفاً للغات وليست للبشر الذين يتحدثون بهما، حسب التعريف الإسياسي للقوميات !!! ثم ما هي الأهمية أو المكسب أو الشرف الذي يناله أي مكون من مكونات الشعب الإرتري حينما يمنح لقب ” القومية ؟ وهل كونه قومية أو مجموعة دينية أو إثنية أو قبلية إلى آخر التسميات يغير من الواقع شيئاً ؟؟ وهل التسميات هي المشكلة التي تواجهنا والتي يجب أن تشغل بالنا وتستهلك جهدنا ؟! اعتقد أننا إن فعلنا هذا فإنما نفعل ما أراده إسياس لنا أن نفعل حينما بدأ يلعب لعبة القوميات !! إن المشكلة الحقيقية التي تواجهنا نحن الذين نريد أن نعيش في مجتمع يسوده الوئام والسلام والتآزر بين مكوناته في ظل نظام ديمقراطي تسوده العدالة والمساواة وتصان فيه حقوق الجميع، هو النظام القائم الذي يقف بيننا وبين تحقيق هذه الأهداف النبيلة، وإزاحته إذاً تكون المهمة الأولى والأساسية التي لا يجب أن ننشغل بغيرها وبغير توحيد رؤانا وطاقاتنا في سبيل تقصير أمد معاناة شعبنا.

لذا لا يجب إهدار الوقت والجهد في الجري وراء شيء لا وجود له في الواقع الإرتري، والطريق الوحيد للرد على كل الأكاذيب والافتراءات والإهانات هو، كما أشرنا سابقا، السير على طريق النضال الذي سار عليه الآباء والأجداد، الذي أكسبهم الاحترام والتقدير من كل الإرتريين المخلصين لهذا الوطن والمجردين من كل غرض. وذلك الطريق كما رأينا هو النضال مع من يشاركونهم الهدف في سبيل هزيمة النظام الديكتاتوري وإقامة نظام ديمقراطي تسوده العدالة والمساواة وتحافظ فيه حقوق كل مكونات الوطن الإرتري، ولا سيما حقوق الأقليات، دينية أم إثنية، سواء على مستوى الوطن أو الأقاليم.