جمل هناشيش
بقلم/منصور كرار
رجل‘ وموقف‘ وقضية
خمسة أعوام مظاهرة:
اليوم في 3 مارس الجاري (2006)‘ أكمل أربعة أعوام وتسعة أشهر بالتمام والكمال‘ لم يبارح مكانه كل يوم وليلة علي مدار الساعة‘ قضاها متظاهرا أمام البرلمان البريطاني‘ في ساحة البرلمان (بارلمنتسكوير) – في لندن‘ محاطا براياته وبأعلامه وبيارقه ويافطاته‘ صار الرجل جزءا من المكان‘ وابرز معلم من معالمها‘ يزوره الناس ويتحدثون إليه‘ يؤكد لزواره بأنه سوف يواصل تحديه للحرب علي العراق وسلبه سيادته الوطنية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبلده بريطانيا‘ ويقسم بأنه سوف يبقي حيث هو‘ أمام البرلمان‘ مستنكرا ومذكرا‘ ما بقي جندي بريطاني في العراق.
الخيط الذي يفصل بين المجانين والعظماء:
سألوه من يكون‘ فقال: ” أنا إما بطلا‘ أو مجرما‘ وإما غبي عجوز أحمق يجلس هنا علي الرصيف” ثم أردف مستدركا “أنا إما معتوه وإما رجل لديه شيء مهم يريد قوله للناس”.
صورة بمناسبة ألف يوم(3/6/2001-3/6/2005)
لن أبرح مكاني حتى يرفع الظلم عن العراق:
إبادة في العراق للأطفال والأبرياء –أمريكا وبريطانيا‘ توقفوا الآن‘ أوقفوا القتل.
التحـــدي:
مستر بريان هاو مواطن بريطاني‘ بالغ من العمر سبعة وخمسين عاما‘ إنجليزي من مدينة ريديتش بمحافظة ورسـسترشاير‘ خرج من بيته في الثاني من يونيو 2001 تاركا زوجته وأطفاله السبعة ليشارك في مظاهرة أمام البرلمان ضد قرار الأمم المتحدة الخاص بفرض العقوبات علي العراق‘ ومنذ ذلك اليوم لم يبارح الرجل مكانه‘ لم يعد إلي زوجته وأولاده‘ لأنه كما قال “أدركت أن حبي لأطفال الجيران يجب أن لا يقل عن حبي لأطفالي‘ وان أطفال العراق يستحقون معاملة عادلة مثلما يستحقه أي طفل بريطاني” وكلما زادت قضية العراق تعقيدا ودموية عبر الآيام‘ زاد الرجل إصرارا وعنادا علي تحدي مواقف حكومته وبرلمانه‘ إنه يحمِّل حكومته معانات أطفال العراق ومعانات الشعب العراقي كله‘ ويحرض الشعب البريطاني ليل نهار بلا كلل ولا ملل لإدانة الاحتلال ولإجبار الحكومة البريطانية وإرغامها علي الخروج من العراق وتحمل نتائج الفظائع التي ترتكبها هناك‘ حسب تعبيره.
الرجــل الإنســـان:
خمسة أعوام تقريبا حتى الآن‘ صيف شتاء‘ ليل نهار‘ علي مدار الساعة‘ ينام في العراء‘ يأكل مما يتبرع به مؤيديه واصدقائه والمعجبين به‘ فقد زوجته وأطفاله وعمله‘ يناوشه المشاغبون من المارة‘ ويتحرش به السفهاء والعنصريون‘ ويزعجه الغوغاء ادعياء المعرفة والسياسة‘ يضايقه رجال الشرطة‘ ويلاحقه الساسة والوزراء بإصدار قوانين وإجراءات لإيقاف نشاطه وإسكاته‘ وإبعاده عن المكان‘ المحكمة العليا وحدها تحميه حتى الآن من كيد السياسيين المؤيدين للحكومة وللمشاركة في إحتلال العراق.
هكذا يعيش: ينام في العراء صيفا وشتاءا في ساحة البرلمان
(مصدر الصورة والتعليق: موقع برلمنت اسكوير دوت اورق دوت يو كي)
صاحب قضية:
لا اعلم لماذا أنجذب نحوه‘ ولماذا أزوره بين الحين والآخر‘ وقفت عدة مرات وجها لوجه أمام الرجل‘ أتأمله‘ انظر إلي ملامح وجهه بعناية‘ وأراقب حركاته الإرادية‘ وغير الإرادية- مثل رمش عينيه‘ وتحرك عضلات وجهه – يدفعني لذلك سؤال ملح مزعج‘ لا أجد له إجابة يسيرة‘ هل أنا أمام رجل مجنون (مجنون سياسي بمستوي عراقة التجربة السياسية البريطانية) أم أنا أمام إنسان! إنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني الخير العميقة‘ تلك الإنسانية التي تسمو بالفرد الآدمي إلي سلوك روحاني ملائكي‘ تصغر أمامه الأنا وإفرازاتها‘ وتضمحل فيه العصبيات الوطنية‘ والإثنية (الجنس‘ ولون البشرة‘ والعرق الخ…)‘ والفوارق الدينية‘ والثقافية والأيديولوجية!
الشـــــــك:
أسأل نفسي هل هو مجنون! وهل أقف أمام حالة مرَضِية وارتباك نفسي معقد بدرجة أعلي‘ أم أنا حقا أمام حالة إنسانية أممية فريدة تتضاءل أمامها واجبات الفرد المباشرة أمام نفسه‘ وأمام أسرته الصغيرة‘ زوجته وأبنائه‘ ووطنه الصغير‘ وملته الصغيرة‘ ليتسع افقه وتكبر همومه وواجباته لتشمل وتحتضن الإنسانية كلها أسرة له‘ ووطنا وملة وثقافة؟
الفضـــــول:
تنتابني حالة فضولية ينتج عنها سؤالا: بماذا سيفسر صامويل هنتنجتون صاحب “صدام الحضارات” أو فوكاياما صاحب “نهاية التاريخ وانتصار الليبرالية الرأسمالية وقيمها” ظاهرة أخونا بريان هاو الانجليزي الأبيض وقضيته المقدسة في الدفاع عن أطفال العراق وشعبها المنكوب ضد الاحتلال! ولم امنع نفسي من الابتسامة حينما تمر بخاطري لحظة عابرة حول كيف يفسر هذه الظاهرة بعضا من الذين لا تتسع عقولهم مليمترا واحدا ابعد من دائرة انتمائهم العرقي أوألاثني أوالقومي أوالجهوي الضيق!
اليقيــــــن:
هذا الرجل المسيحي الانجليزي الأبيض الذي لا يمت إلي العرب ولا إلي العراق ولا إلي الشرق الأوسط بصلة‘ ولم يزور العراق يوما‘ ولم يذوق فيها “لا غوزي ولا تمن ولا تمر”‘ هو “إنسان” رضع من ثدي اليسار الانجليزي ألأممي ونشأ وتربي علي حب الإنسانية جمعاء‘ وتصرفاته ومواقفه لا يحكمها لون بشرته ولا جنسيته أو قبيلته أو قوميته بل انتمائه للإنسانية جمعاء.
الموقف:
والعراق اليوم منقسم بين معسكرين:
مقاومة وطنية‘ واسري شجعان‘ واسود تزمجر في اقفاص‘ ومساجين ابرياء‘
وشعب مكلوم مغلوب علي امره جائع‘ هذا من جهة. يقابلها من الجهة الأخرى احتلال‘ وارتزاق‘ وإرهاب‘ وشعوبية‘ وانفصال‘ وطائفية.
ولا حياد بين المعسكرين لأي كائن سياسي في العالم مهما كانت جنسيته او لون بشرته ودينه‘ وقد اختار المستر بريان هاو معسكره بوضوح وحدد موقفه.
في المعسكر الاول‘ الذي هو نتاج طبيعي للإحتلال‘ هناك سعي لإشعال فتنة الحرب الاهلية‘ بتفجير المساجد وهدم مزارات الأئمة من آل البيت‘ وقتل الناس علي الهوية المذهبية‘ وهناك سعي لاعدام صدام حسين انطلاقا من الرغبة في الإنتقام فقط لا غير‘ حيث سيصبح دمه كابوس حرب وعدم استقرار يخيم علي سماوات العراق والمنطقة لعقود ان لم يكن لمئآت السنين.
في المعسكر الثاني‘ هناك رفض للإحتلال‘ والتمسك بالثوابت الوطنية وبالوحدة والتعايش السلمي بين مكونات الشعب العراقي‘ وهناك رفض لروح الانتقام والتسامي الي سماحة التسامح‘ والنظر الي المستقبل بعيدا عن جراحات الماضي‘ وهناك سعي حثيث لمصالحة ووفاق في مؤتمر عراقي عربي جامع.
ولا مجال للحياد بين المعسكرين لأي كائن بشر في العالم مهما كانت جنسيته او لون بشرته أودينه‘ وقد اختار المستر بريان هاو معسكره بدون تردد.
وهناك سعي لتحويل السودان الي عراق آخر‘ وجرح آخر تنزف من خلاله أفريقيا دمها وثرواتها واستقرارها‘ وتدويل قضاياه المحلية التي يمكن حلها بتطبيق نظام فيدرالي ديمقراطي يقتسم فيه اهل السودان السلطة والثروة‘ وهناك في الجانب الآخر رفض للتدويل ولجعل السودان عراق وافغانستان أخري‘ ولا خيار للحياد لمستر بريان هاو في ذلك ايضا فقد اختار معسكره.
فاليباركك الله يا صديقي:
وهذه هي المرة الأخيرة التي ازور فيها بريان هاو‘ اقتربت منه للحظة وصرت انظر في عينيه بدون أن ارمش‘ ودار في عقلي بأنه رجل فريد من نوعه لا يقل شأنا عن الماهتاما غاندي وغيره من رجال السلام‘ التقط الرسالة من عيني‘ ابتسم الرجل في وجهي في ذات اللحظة‘ ابتسامة تنم عن الرضا‘ وقال لي “جود بلس يو فرند”‘ يبدو انه أيضا كان يراقب وجهي المتبلد حينما كانت تلك الأسئلة تجول في خاطري‘ وأجبته بفرحة أعظم “بلس يو تو برازا”‘ وكان ذلك وداعا‘ وانصرفت فورا تجاه فيكتوريا.
أنها نعمة الديمقراطية والحرية:
في زيارته إلي الولايات المتحدة الأمريكية في 7 ابريل 2002‘ تحدث رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير في مكتبة جورج بوش الرئاسية العليا‘ مستحضرا ما يقوم به مستر بريان هاو‘ حيث قال:
“حينما أمر يوميا بالمتظاهرين‘ وأنا في طريقي إلي مكتبي في داوننج استريت‘ صدقني! وهم يهتفون اعتراضا علي كثيرا من سياساتي‘ ربما لا أحب الكثير من الأوصاف التي يصفونني بها‘ ولكنني أحمد الله علي أنهم يستطيعون قولها‘ أنها الحرية.” (المصدر: موقع برلمنت اسكوير دوت اورق دوت يو كي).
دعــــــــــــــاء:
اللهم اكتب لبريطانيا وكل شعوب العالم الديمقراطية دوام النعمة التي أنعمت بها عليهم والتي سمحت لمستر بريان هاو وأمثاله‘ بحرية التعبير‘ ولأمثالي من الغرباء المساكين الاستماع إليهم دون خوف‘ وأن تعطينا في بلادنا من الديمقراطية والحرية جرعة مما أعطيتهم منه حتى التخمة.
اللهم واقبل دعاء وصلات عبدك مستر بريان هاو وغيره من ملايين المؤمنين من كل الأديان‘ والشرفاء وأحرار العالم قاطبة‘ حتى يعم هذا الكوكب الصغير السلام ويختفي فيه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
نصلي من اجل السلام
لا يصح علي الإطلاق ما يقال بان هناك “حرب جيدة أو سلام سيئ”
(مصدر الصورة: موقع برلمنت اسكوير دوت اورق دوت يو كي)
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6833
أحدث النعليقات