الدين والسياسة
عمر جابر عمر
ملبورن -أستراليا
(1) السياسة هى ( ادارة شئون الناس ) – حل مشاكلهم – ضمان حقوقهم وشرح واجباتهم – وكلما كانت حياة السكان اكثر رفاهية واستقرارا وسعادة كلما كانت السياسة ناجحة ويقال عن (الحكم) انه صالح.
والدول الحديثة تطبق القوانين والبرامج التى تضعها بنفسها سواء كان عن طريق جهاز تشريعى منتخب او يتم تعيينه مع الاستعانة بالخبراء والمستشارين وذوى الاختصاص.
تلك هى الدولة ( العلمانية ) ولكن هناك دول تطبق ( الشريعة السماوية) ( السعودية – ايران ... الخ) مع ما يوجد من اختلاف مذهبى وتباين فى الاجتهاد الفقهى .
وهناك (الفاتيكان ) الدولة الكاثوليكية والتى توجد داخل دولة علمانية (ايطاليا) وهناك
الدولة اليهودية ( اسرائيل ) .
السؤال: ماهى نظرة الدولة العلمانية للدين؟ كيف نتعامل معه وما هو موقفها منه والحال ان المواطنين الذين تدير شئونهم يؤمنون بهذا الدين او ذلك ويشكل تكوينهم العقلى والنفسى ويؤثر على سلوكهم اليومى ؟
بعض الدول تطبق وتتبع مقولة : الدين لله والوطن للجميع – وتذهب ابعد من ذلك لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة , بعبارة اخرى : فصل الدين عن الدولة .
ولكن وكما اثبتت التجارب الانسانية فان تلك المقولة محاولة لذر الرماد فى العيون والالتفاف على المشكلة بدلا عن مواجهتها والتعامل معها بحكمة وعقلانية وواقعية.
من الصعب – ان لم يكن من المستحيل فصل الموقف السياسى لدولة ما عن تكوينها الدينى ( على مستوى القاعدة ) لا يمكن تجاهل مصالحها الاقتصادية والامنية والسياسة المرتبطة والمتداخلة مع الهوية ( الثقافة – الدين – التراث والجغرافيا ) .
وما حدث موخرا من ردود افعال ضد الدنمارك والنرويج بسبب رسومات تسىء الى النبى محمد (ص) يوكد ذلك وبالمقابل فان الدول التى تقول بتطبيق الشريعة الاسلامية نجد ان علاقتها مع بعضها البعض ليست بافضل من علاقات كل دولة على حدة بدولة اخرى لا تطبق الشريعة الاسلامية.
هنا تدخل عوامل الاقتصاد والسياسة والمصلحة ( الوطنية) لتحدد طبيعة العلاقة ومدى تطورها وبالمقابل فان الدول العلمانية تلجأ الى الدين لتستنجد به متى ما وجدت مصلحة سياسة او اقتصادية فى فتوى من المؤسسات الدينية لتلك الدول.
وعلاقة الدولة فى ( مصر ) مع (الازهر ) نموذج لذلك وكذلك بقية الدول العربية والاسلامية .
ولا يقتصر الامر على الاسلام – فالدول الاوربية وامريكا تستعين بالموسسات المسيحية لنشر برنامج بعينه – مثل مشكلة ( الاجهاض) والبيئة واخيرا ( الارهاب ) !
وبعض رجال الدين المسيحين فى امريكا تطوعوا للمطالبة بتصفية رؤساء دول ليست على وفاق مع امريكا ( شافيز- فنزويلا) .
بل ان الرئيس الامريكى بوش قال انه رأى رؤية طلبت منه غزو العراق !؟
البوزيون ايضا كان لهم دورهم فى الحرب الفيتنامية ومشكلة (دلاى لاما ) التبت ما تزال تراوح مكانها حتى اليوم بسبب مواقف صينية عليا وعلاقات دولية بنيت على المصالح رغم الطابع الدينى للمشكلة. واذا عدنا الى الهم الارترى يقول لك البعض ان ( الدولة ) فى ارتريا لا علاقة لها بالدين بل ربما لا تومن به اصلا؟ ولكنها مجبره للتعامل معه لانه جزء من مكونات الشعب الثقافية والروحية ولكل دين اتباع لا يمكن الوصول اليهم او اقناعهم الا عن طريق الرموز الدينية لكل فئة.
المنطلق الاساسى للنظام فى ارتريا كان وما يزال: الخضوع والولاء للنظام وتنفيذ برنامجه .
وكل من خرج على ذلك فهو عرضة للعقاب والعزل والسجن.
1/ برنامج التجنيد ( ساوا) – رفض اتباع ( جيهوفا) الالتزام فتمت محاربتهم واعتقالهم وهرب منهم من هرب.
واعترض المسلمون على تجنيد الفتيات ووضعهن فى معسكرات مشتركة مع الرجال وكان ان قدم مفتى المسلمين (فتاوى ) بجواز ذلك وان لا ضرر ولا ضرار .
2/ تقدم الدولة الارترية دعما سنويا ثابت للمفتى وللكنيسة الارثوذكسية ( باعتبارها الكنيسة الوطنية ) ولكن العلاقة لم تتوقف عند ذلك الحد – كان ذلك مدخلا لتضمن الدولة وتطبق سياستها واخضاع القيادات الدينية لتنفيذ قرارا تها.
3/ تنادى بعض وجهاء الطائفة الاسلامية وطلبوا من المفتى تكوين مجلس يساعده فى اداء مهامه ويكون مرجعا لدار الفتوى.
وقدموا له بعض الاسماء – وما كان من المفتى الا ان اخذها الى ( نايزقى كفلو) وطلب رايه فيها ولم يتردد مسئول الامن فى شطب بعض الاسماء المشكوك فى ولائها واعاد اليه القائمة بعد التننقيح!
4/ كان الوضع مع الكنيسة مختلفا واكثر صعوبة – الكنيسة لها مرجعيه ومجلس يدير شؤنها ويوافق عليها ( البابا) وليس الحال كذلك مع المفتى الذى عينته الحكومة وتستطيع عزله متى ارادت ذلك !
حاولت الحكومة الارترية احتواء الكنيسة الارثوذكسيه واخضاعها لبرنامجها – تاره بالترهيب واخرى بالترغيب :
• عام 1992 – بعد التحرير مباشرة حضر رئيس النظام احتفالا دينيا بمناسبة ميلاد المسيح- وخاطب الجموع وشن حملة شعواء على القساوسة وادارة الكنيسة بسبب ( التلاعب والخيانة ) فى فترة الاحتلال الاثيوبى .
• ومن خلال الدعم المالى – حاولت الحكومة الارترية كسب ود الكنيسة واقناعهابقبول برنامج الجبهة الشعبية والتبشير به فى اوساط اتباعها . ولكن رئيس النظام لم يخف استخفافه بفتاوى القساوسة وطقوسهم الدينية.
فبعد التحرير طلبت منه الكنيسة ان يقوم بتسجيل زواجه من زوجته رسميا فى الكنيسة ويحصل على بركات الرب ولكنه اجاب :
لست بحاجة الى وثيقة منكم لاثبات زواجى ومريم العذراء لم تطلب شهادة لتثبت برائتها من تهمة ....
بالاعتقال والتصفيات والمطاردة كسبت الحكومة الارترية دار الفتوى الاسلامية واصبح المفتى قابلا بكل برنامج النظام ومبررا لكل قراراته ومواقفه.
ولكن الامر – كما ذكرنا – لم يكن بنفس السهولة مع الكنيسة الارثوذكسية والتى تعتبر الكنيسة الاكبر والوطنيه ( فى ارتريا ).
بعد ان فشلت محاولات النظام لاخضاع الكنيسة قامت باختراقها من الداخل – ثم تعين ابن قشى ديمطروس ( العميل الاثيوبى المعروف ) مسئولا اداريا لشئون الكنيسة.
وقد كان الابن مثل ابيه خادم للنظام الاثيوبى وسفيرا له فى عدة بلدان افريقية واسيوية .
بدأ ديمطروس الابن من داخل الكنيسة لكسب بعض القساوسة الى جانبه وضد
–(الانبا ) انطونيوس راعى الكنيسة .
استطاع بعد فترة كسب تأييد ثلاثة منهم وقام بتنظيم اجتماع طارىء وعزل رئيس الكنيسة. ولكن الرجل لم يستسلم – واصدر قرارا بطرد المتسلل الى الكنيسة ( ديموطروس الابن ) وجمد الاساقفة الثلاثة وهنا قامت الحكومة بالكشف عن وجهها الحقيقى والقبيح – قامت باعتقال رئيس الكنيسة الانبا انطونيوس وفرضت عليه الاقامة الجبرية فى منزله وجردته من كل امتيازاته وصلاحياته. لم تكترث لردود الافعال الاقليمية والدولية حيث ان الكنيسة الارثوذكسية الارترية جزء من منظومة تشمل عدة بلدان – ولم تحترم مشاعر وعقيدة اتباع الكنيسة وهم الاغلبية فى اطار الطائفة المسيحية الارترية.
( جريمة) الانبا انطنيوس الوحيدة هى انه رفض اخضاع الكنيسة لنظام الجبهة الشعبية
وتمسك باستقلالية الكنيسة وبرسالتها الدينية والانسانية.
الماساة التى يواجهها المسلمون و المسيحيون معا هى طبيعة النظام الذى لا يؤمن بالمؤسسات خارج نظامه وان وجدت فعليها ان تخضع وتكون اداة له .
وتصبح الماساة مزدوجة حين يكون النظام جاهلا بالسياسة بمعناها الاجتماعى والاقتصادى ولا يؤمن بالدين كرسالة روحية وثقافية وانسانية .
هذا الجهل المركب والعقم العقلى فى التعامل مع مبادىء الانسانية ( الحرية – الديموقراطية – العدالة – المساواة ) من جهة والرسالات السماوية ودورها فى حياة المجتمع من جهة ثانية تلخص مأساة الشعب الارترى مع النظام :
لا دين ولا دنيا !!
كان الله فى عون الشعب الارترى
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6917
أحدث النعليقات