الموبقات التسع (1)
الحلقة الاولى
الهيمنة الثقافية
بقلم / عمر جابر عمر
ملبورن – استراليا
بداية يجب ان نعرف معنى مصطلح الثقافة حتى نحدد ما اذا كانت هناك هيمنة أم لا ؟
العلوم هى مشتركة بين البشر – قوانين وأسس الفيزياء والكيمياء والاحياء والجيولوجيا … الخ واحدة وموحدة وكذلك المعادلات الرياضية والحسابية – ولكن اختلاف الشعوب من اختلاف الثقافات … القيم والمبادئ والمورثات والعادات والدين ؟؟
اللغة هى أداء ناقلة للثقافة ومعير عنها ووسيلة للاتصال والتواصل .. ولكنها وهى تؤدى ذلك الدور يتأثر تشكيلها وحتواها ومفرداتها بتطور الثقافة المنبثقة عنها فالعلاقة عضوية جدلية – بمعنى ان معرفة اللغة والتفوق فيها يرفع من مكانة الفرد فى تلك المجموعة الثقافية بل ويفتح المجال لمن يريد ارتياد الساحات التى تتحقق فيها طموحاته .
لكل شعب بل لكل قومية ثقافتها التى تفخر بها ، ولاتقبل أن يسلبها منها أحد أو يقوم بتشويهها …
فى مرحلة تقرير المصير كانت قومية (( الآمهرا )) تبسط نفوذها وتبحث لها عن موطئ قدم لابتلاع ارتريا كلها . كانت النخبة المسيحية من أبناء المرتفعات الارترية (( الاندنت )) تتقرب من قومية الامهرا وتتذلل لها ظنا انها يمكن ان تحظى بمكانة خاصة فى الامبرطورية . ولكن خاب ظنهم … الآمهرا عاملوا قيادات الاندنت بأحتقار واعتبروهم عملاء وبعد ان حققوا أهدافهم لفظوهم ولجأ بعضم والتحق بالثورة بعد فوات الاوان .
رموز القوميات الاخرى الذين جندتهم الجبهة الشعبية وعملت على تهجينهم ومارست ضدهم (( ختان عقلى )) أصبحوا ملكيين أكثر من الملك يدافعون عن المواقف التى لا يجرء أركان النظام الحديث عنها .
عندما تصل الهيمنة الثقافية أقصى مدى يجد الشخص من القوميات الاخرى نفسه ملزما ومكرها للسير فى اتجاه مرسوم سلفا تم تعبيده وتزيينه بثقافة القومية المهيمنة وعلى راسها اللغة – عليك أن تتحدث اللغة اذا كنت تبحث عن عمل أو تريد أن تلحق بالمدرسة او بالجيش بل وحتى للنزهة والتسوق فى الاماكن العامة !
اينما تلتفت تجد نفسك محاطا بشعارات وأغانى وتعليقات نابعة من تلك الثقافة المهيمنة .
حكى لى صديق حضر لقاء للجالية الارترية فى (( أبوظبي )) أثناء حرب (( بادمى )) 1999 . رأى فى الاجتماع شخص من أبناء البلد ( ظبيانى ) يقف ويتحدث بلغة تقرنية بطلاقة ! وقبل أن أفيق من دهشتى نهض أخر زميل له وخطب فينا بالتقرنية … سألت الذى يجلس بجواري من هؤلاء ؟
قال : ارتريون … رشايدة من ارتريا !؟
عندها أدركت الى مدى وصلت الهيمنة الثقافية !!
وحتى يمكن لثقافة ما السيطرة والاستئثار بكل شئ لابد لها من التحرك ووضع اليد على مواقع محددة :
1 / السلطة السياسية
2 / الثروة – الاقتصاد
3 / الوظائف العامة
4 / القوة العسكرية … الجيش والامن
5 / الاعلام .. الفنون ووسائل الاتصال مع القواعد
6 / التعليم …
الجبهة الشعبية كأتجاه وتوجه بدأت منذ وقت مبكر فى تحقيق الآهداف المذكورة أعلاه .
ولكن قبل اعلان ميلاد الجبهة الشعبية كتنظيم عام 1976 كانت هناك مؤشرات ومواقف تشير الى بروز مثل تلك الاتجاهات :
1 / اثناء الدراسة فى جامعة ،، اديس أبابا ،، كان الطلاب الارتريون يتحدثون عن الثورة وأخبارها باعجاب ولكن الطالب (( أسياس أفورقى )) كان يقول لهم : (( بعلنا كنمرحا انا )) أي سنقودها بأنفسنا !؟
2 / حينما التحق بجبهة التحرير وأرسلته الى الصين فى دورة تأهيل عمل (( اسياس أفورقى )) على شق أعضاء الدورة الى فريقين – وكما جاء فى تقرير السلطات الصينية الى قيادة الجبهة ( المجلس الاعلى ) وصف ماحدث بأنه خلاف بين الذين ثقافتهم عربية والذين ثقافتهم تقرنية !؟ لم يقل التقرير مسيحيين ومسلمين !؟
3 / بعد عودته الى الميدان واختياره عضوا فى القيادة العامة عام 1969 انفصل (( اسياس أفورقى )) بمجموعته عن جبهة التحرير وأصدر بيانه ( نحن وأهدافنا – نحنا علامانا ) وكانوا جميعا من أبناء المرتفعات الارترية من المسيحيين .
4 / واصل (( أسياس أفورقى )) نهجه ورسالته – يجمع كل من اختلف مع جبهة التحرير ويستفيد من أمكانيات وقدرات المنشقين عنها ( قوات التحرير ) حتى أعلن تنظيمه الجبهة الشعبية عام 1976 . بكل المواصفات والآسس التى تضمن هيمنة قوميته .
كان معظم من حوله مشغول بالمواجهات اليومية مع العدو الاثيوبى – عسكريا وجماهيرا واعلاميا … ولكنه الوحيد الذى كان يخطط ويرسم – الهيمنة على الاقتصاد ومؤسساته – السيطرة على الآمن والاعلام وتوجيهه ..
بناء أسس دولة المستقبل على مقاسه هو وطموحاته هو وفكره هو .
جاء النصر وانتقلت الجبهة الشعبية بعتادها ومعداتها .. بتراثها وموروثاتها .. بنهجها الاقصانى واستئثارها بكل شئ ، من مرحلة الثورة الى مرحلة الدولة .
بدأت تنفذ ما شرعته سلفا – وفرضت سياسة الآمر الواقع لتمرير سياستها وبرامجها .
كيف طبقت الجبهة الشعبية مقولة الهيمنه الثقافية بأسسها ومرتكزاتها التى ذكرنا فى البداية ؟؟
أولا : السلطة السياسية – الحكومة المؤقته بعد التحرير ثم الحكومة الانتقالية بعد الاستقلال والتى كان يفترض ان تنتهى عام 1997 .
افتعال الحرب مع اثيوبيا حول (( بادمى )) والانفراد بالقرار السياسى حتى على مستوى تنظيم الجبهة الشعبية وأعتقال مجموعة ال 15 وبدء مرحلة الدكتاتور الفرد .
ثانيا : الثروة – الاقتصاد
شركة البحر الاحمر المملوكة للجبهة الشعبية والتى احتكرت كل شئ – التصدير والاستيراد والتوزيع وأغلقت الفرص أمام الآستثمار الآجنبية والقطاع الارترى الخاص . يضاف الى ذلك المصانع الموروثة من العهد الاثيوبي … مصانع النسيج – الآغذية – الخمور – الزجاج – الخ … كذلك السيطرة على القطاع المصرفى والبنوك وعقود التسليف والقروض والتمليك .
ثالثا : الوظائف العامة
المناضل ( ادريس أبعرى ) كان يناضل فى صفوف الجبهة الشعبية وكان من أشد المتحمسين للتدريس بلغة الآم رغم انه يجيد اللغة العربية ويكتب بها قصصا وروايات . بعد الاستقلال تم تعينه مديرا لمكتب العمل وكانت المفاجأة .. وجد الكشوفات الكاملة للتوظيف واسماء ومواقع الموظفين .. كان 95% من هؤلاء من قومية التقرمية !! صرخ ونادى وكتب ولكن لا أحد يسمعه … وأخيرا وضع فى السجن حتى اليوم !
فى احصائية قدمها السيد / أحمد راجى فى موقع عواتى ( أغسطس 2009 ) يقول ؟
* عام 2002 قامت بعثة الآمم المتحدة بمسح للسياسة التعليمية – شارك فى ذلك الجهد اكثر من أربعين شخصا من المديرين والمشرفين – لم يكن منهم غير الوزير (( عثمان صالح )) وشخص أخر والبقية من قومية التقرنية !
* ورشة عمل فى مجال الزراعة والتغذية انعقدت عام 2006 شارك فيها 185 لم يكن منهم غير ستة أشخاص والبقية من قومية التقرنية .
* فى عام 2007 سيمنارات فى وزارة الصحة شارك فيها أكثر من أربعين شخصا كان بينهم مسلم واحد .
يقول انصار النظام ان ذلك ميراث من الحقب الاستعمارية السابقة وسنعيد الامور الى المستوى الطلوب … غير صحيح … مقارنة بسيطة مع الحقب الاستعمارية توضح ما يلى :
1 / عهد بريطانيا – كان هناك توازن اقليمي وطائفى فى الوظائف العامة
2 / فى عهد هيلاسلاسى تراجع ذلك التوازن ولكن يظل بالمقارنة لما هو موجود اليوم أفضل بكثير !
عام : 1965
* فى محافظة القاش – سيتيت كان اثناء عشر من عشرين من ابناء المنخفضات والمسلمين ( حاكم – قاضى – قائد شرطة – ادراى )
* سمهر والساحل : أحد عشر من اثنين وعشرين
* دنكاليا : ثمانية من أربعة عشر
الوضع الراهن 2009
* مصوع : أربعة من ستة عشر فقط من المسلمين
* عنسبا ( كرن ) اربعة عشر من ستة عشر من قومية التقرنية
* قاش – بركا : خمسة عشر من ستة عشر من قومية التقرنية
اذا كانت الخطط الثقافية والوظيفية والاقتصادية يتم توزيعها وفق نسبة القوميات فان قومية التقرنية تشكل 50% على أكثر تقدير وحسب احصائيات قدمها مكتب التخطيط فى وزارة التربية عام 1996 . لكنها تستحوز على 95% من الوظائف أو أكثر .. انها هيمنة كاملة وشاملة .
ربعا : القوة العسكرية والامن – فى الرتب العالية ( جنرالات – عقداء – رواد ) تظل هيمنة قومية التقرنية كاسحة وحاسمة .
خمسا : الاعلام … امتلاك وسائل الاتصال – اذاعة وتلفزيون وصحف .. ارتريا البلد الوحيد الذى لاتوجد فيه صحافة خاصة .
هنا لا نجد الهيمنة الوظيفية فحسب ، بل والرسالة التى يبعث بها النظام يوميا لنشر الثقافة الوحيدة والواحدة …
بعض البسطاء يعتقدون ان وجود صحيفة (( ارتريا الحديثة )) باللغة العربية هو اعتراف باللغة ومساواتها مع التقرنية – كلا أيها السادة – هناك نشرة باللغة الانجليزية تصدرها الحكومة الارترية موجهه الى الآجانب … نفس الوضع ينطبق على ارتريا الحديثة .. العربية !
الدليل – تجربة شخصية مررت بها .. كتبت مقالا عن الديمقراطية فى ارتريا الحديثة .. واراد أحد الاصدقاء ترجمتها الى التقرنية لينشرها فى الصحيفة الاخرى .. ولكنه منع – بل تلقى انذارا ؟
قالوا له ليكتب ما يشاء بالعربى .. من يقرأ ؟
اما التقرنية فهى اللغة الرسمية التى تعبر عن رأى الدولة !؟
كانت اللغة العربية محصورة فى برنامج اذاعى وتلفزيونى محدد لاتتجاوزه – وكذلك بعض اللغات القومية الاخرى .. وكانت حقوق تلك القوميات أشبه ما تكون بالحقوق المتحفية . تظهر فى الاحتفالات والرقصات الفلكلورية والاغانى – ولكن ما حدث مؤخرا انه حتى تلك الحقوق ذهبت وتلاشت لان ابناء وبنات قومية التقرنية بدأوا يتعلمون الغناء واداء الرقصات لتلك القوميات ويتدربون عليها ويقدمونها على المسرح والتلفزيون !
ماذا تبقى من مظاهر ومواطن الهيمنة الثقافية ؟؟
سادسا : التعليم
فى مفهومه وتوزيعه العام على مستوى القطر فان قطاع التعليم يعانى تخلفا فى المناهج والوسائل وسوء توزيع فى مواقع المدارس على مستوى الآقليم الارترية . فى فترة الاستعمار الاثيوبي كانت نسبة التوزيع ايضا غير عادلة بين المرتفعات والمنخفضات حيث كانت 1:2 ، ولكن فى عهد الشعبية وفرض لغة الام اختل التوازن وأصيبت مناطق المنخفضات والمسلمين عموما بجفاف تعليمى جعلها لا تستطيع التنافس .
* فى دراسة أعدها الاستاذ ( محمد عثمان ايلوس ) عن التعليم فى عام 1991 – 2004 نجد ما يلى :
1 / متوسط استيعاب الطلاب فى المرحلتين الابتدائية والمتوسطة هو 48.9% على مستوى ارتريا
2 / الطلاب الجالسين لامتحان الشهادة الثانوية خلال عشرة أعوام بلغ عددهم خمسون ألف والناجحون منهم ثمانية الاف والمقبولين فى جامعة أسمرا من هؤلاء ألفى طالب فقط 90% منهم من قومية التقرنية .
* البعثات الدراسية وبعثات التأهيل والتدريب فى الخارج ( جنوب افريقيا – مصر – ايطاليا ) 90% من قومية التقرنية .
فى عام 2002 اعترفت الحكومة بفشل برنامج التعليم .
كان أبناء القومية المحظوظة يتوقع منهم الابتهاج والاحتفال بانتصارهم وتفوقهم … ولكن ماذا حدث ؟؟
لقد حقق لهم ( القائد الملهم )) كل ذلك .. فلماذا المعارضة ؟ لماذا الهروب الجماعى للشباب ؟ لماذا الحملات الاعلامية من أبناء القومية على النظام ليس من جهة التحالف الديمقراطى فقط بل من المواقع المستقلة ومنظمات المجتمع المدنى ؟ لماذا المسيرات ومظاهرات الاحتجاجات فى أروبا وامريكا واستراليا ؟؟ ربما كان السبب (( الدلع )) الذى زاد عن حده كما قال لهم قائدهم الملهم ؟؟ كلا ………
1 / ليس بسبب الخدمة الوطنية التى ليس لها نهاية وضياع فرص بناء المستقبل .
2 / ليس بسبب انعدام الحريات وتفشى البطالة وضياع حقوق الدفاع عن النفس عند الاعتقال
3 / ليس بسبب غياب حرية الحركة فى الخروج والدخول وعدم القدرة على الاستثمار وانعدام فرص المنافسة الاقتصاد .
كل تلك هى عوامل ساعدت وسرعت من عملية المواجهة والطلاق مع النظام .. لكن الاسباب الرئيسيه هى :
الشرخ الذى حدث فى الجدار الذى كان يحمى تلك القومية والانهيار الذى لحق بالبناء الثقافى لقومية التقرنية .
اولا : أحد مكونات وركائز تلك الثقافة هو (( التوازن الاقليمى ؟؟؟ سراى وأكلى قزاى وحماسين .. حتى لو كان القائد من جهة واحدة لابد من حضور ومشاركة الاخرين – بالقرار – بشغل الموقع .. بالظهور فى الواجهة . بعد اعتقال مجموعة ال 15 تم تهميش أكلى قزاى ووجود سراى أصبح جزئيا وثانويا .
ثانيا : الكنيسة – فصل الدين عن الدولة – ما لله لله وما لقيصر لقيصر – على القيصر ان يحصل على مباركة ومبايعة راعى الكنيسة . ما حدث هو العكس بدا (( القيصر )) يتدخل فى شئون الكنيسة بل عزل الباب واعتقله وعين بدلا عنه اخر – تلك ركيزة اخرى انهارت بسبب التصرف الآحمق للدكتاتور .
ثالثا : الموروث التاريخي – علاقة قومية التقرنية بقومية تقراى اجتماعيا وثقافيا يجعلهما موروث تاريخى وعلاقات يومية ووشائج وصلات اجتماعية .
المعركة التى فجرها النظام مع ( التقراى ) واحدثت الطلاق النهائى والعداء المستحكم بينهما أطاحت بالركيزة الثالثة لقومية التقرنية –
نموزج اخر للتصرفات الحمقاء للدكتاتور وتغلب الطموح الشخصى والقرار الفردى على مصلحة القومية التى يمثلها !
بابعا : حالة التفوق والسيطرة داخليا ولدت رد فعل عدائي من بقية القوميات دفاعا عن نفسها ورفضا للامر الواقع .. قومية التقرنية فى النهاية جزء من الشعب الارتري اذا كان لها ان تعيش بسلام مع الاخرين عليها ان تعترف بشراكتهم وحقوقهم . يضاف الى ذلك العزلة الاقليمية والدولية التى تعانى منها الدولة الارترية … كل ذلك جعل الحاضر بالنسب لآبناء قومية التقرنية مقلقا والمستقبل مبهما ومظلما . حتى لضمان استمرار (( دولتهم )) لابد من تحقيق التعايش الرضائى مع الاخرين .
لذا فان موقفهم هذا هو فى سبيل البحث عن مستقبل افضل اكثر استقرارا وضمانا من حاضر لايستطيع أحد ان يتنبأ متى وكيف سينتهى .. ولكن الآكيد انه سينتهى !؟
كان الله فى عون الشعب الارتري
الى الحلقة القادمة
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=7731
أحدث النعليقات