القومية بين التغييب والغيبوبه
محجوب محمود- الولايات المتحدة
كان الامام موسي الصدر يرفع شعار ، المحرمون في أرضهم مع المحرومين عن أرضهم ليؤسس للتحالف اللبناني الفلسطيني .إلا ان محرومي إرتريا ضاق صدرهم وتقاصر جهدهم عن تاسيس كتلة عريضة من المحرومين في وطن واحد.
فكانت ردود الافعال للحق القومي عقب لقاء اديس ابابا تترواح بين إنكار بيان لقاء اديس ابابا، وأن ايراد حق تقرير المصير دس علي المؤتمريين (نظرية المؤامرة) ،أو جند من الأجندة الاثيوبية ،وأن اطراف لقاء اديس ابابا لاتملك الشرعية لمنح هذا الحق ،بل يبدي صاحب هذا الرأي دهشته واستغرابه في كيف يعطي من لايملك لمن لايستحق !!. وهناك من يرد الأمر الي أيادي أجنبية غربية، ومن تلطف ركن إلي استيراد التجربة الاثيوبية، ومن أحسن النوايا عزا الأمر إلي سوء تنظيم وإعداد تلام عليه اللجنة التحضيرية.
كل هذه الدعاوي والتهم كانت علي خلفية هدير طبول الديمقراطية الموعودة ،فهل ياتري يقصدون الديمقراطية كنسق من أنساق بنية متكاملة أم كإجراء شكلي كما هو معهود في دول ال99.9% ،وهل ارتريا الجديدة ارتريا الوعد هي إبدال لدولة القومية الواحدة المتسلحة بأدوات السلطة ،بسلطة الاغلبيات (دينية،قومية ) مدعومة بصندوق انتخاب شكلي إجرائي؟ .أم أن ارتريا الوعد لاتختلف مع دولة اسياس في أن أقوام ارتريا يقتصر دورها في رقصات وازياء فلكلورية نتباهي بها أمام السفراء والوفود الأجانب في المناسبات الوطنية وتناط مهام الدولة التشريعية والتنفيذية للأوصياء الجدد؟
لايرغب البعض بل يتجنب أن يستصحب معه التاريخ ويستسهل الأجوبة المعلبة للأسئلة المقلقة – فاثيوبيا هي مصدر الشر التاريخي المستدام – والمتسبب أو الداعم من طرف خفي لهذا الشر المستطير ، هنا يتبادر سؤال للذهن- هل كانت اثيوبيا هي المشجع والداعم لجبهة التحرير الارترية لطرح برنامج القوميات في المؤتمر الوطني الثاني ؟ ولماذا أخفقت الجبهة في التعامل مع الكوناما ووفقت في التعامل مع العفر ؟ هل لعامل الحدود دور في ذلك ؟ أم هي التوازنات القومية بمقتضي الحجم.؟ كما ذكر أحد المتحذلقين الذي يتعامل مع القضايا الحقيقية وفق فقه الضرورة الذي يبيح بعض المحظورات – أما بقية القوميات فعليها أن تقبل العيش مكممة الأفواه تحت نظام القهر والتسلط المراد له أن يتولى السلطة في غياب الحقوق.
أما أهل التغيب فهم منقطعين عن الماضي ومنفصميين عن الحاضر ، فهم لايجتهدون في تفحص أوراق اللقاء الذي طرح ضمن أوراقه ورقة بعنوان :مشروع الوحدة الوطنية التحديات والافاق ،وناقش الملتقي قضية القوميات والتعدد القومي واللغوي – فأن يطرح الملتقي مشروعاً للوحدة الوطنية بهذا الشكل فهذا يعني بأن الوحدة الوطنية معطوبة أو مفقودة، أي أنها ليست حالة متحققة بل تصور مأمؤل وغاية مقصودة يتلمس دروبها بروية راشدة ديدنها الحقوق لتأسيس أرضية تعايش لهذا التعدد ليقيم عليها صرح الوحدة الوطنية ،فالوحدة الوطنية لاتتأتى بالهتاف والشعار والقصيد بل بالرؤي المؤسسة علي حقائق الواقع .
أما تبرير أعطي من لايملك لمن لايستحق ،فيشئ باستخفاف و منطق مقلوب من شأنه أن يضيف قوة للظلم عن طريق الإنتقاص من قوى الحق بهذه السلبية . لأن الحقوق لاتعطي وإلا لما تكبد أطراف اللقاء عناء الترحال لاديس ابابا ولظلوا في منافيهم ومعسكراتهم إلي أن يتفضل عليهم اسياس بأعطية ، ولظل الشعب الارتري في إنتظار الاعطية منذ عهد الامبراطور إلي يومنا هذا.
ويتجلى الإستخفاف في وصم من يبذل دمه ويفدي نفسه بأنه غير مستوفي لشروط هذا الإستحقاق بحجة أنه فاقد للشرعية !!!!
تري من اين تأتت شرعية جبهة التحرير ؟ ومن فوضها لاشعال الثورة ؟ ألم تكن بدايات الثورة هي تحالف للمحرومين مدعوماً بقوة الحق التي شرعت لهذا التحالف ، رغم وجود قسم من هذا الشعب حينها في يد الإمبراطور يضرب به قوى الثورة – فكما لم تكن فاقدة للشرعية حينها كذلك هي اليوم- بل أن شرعيتها أكثر رسوخاً لأنها عمدت بالدم ولا ينتقص منها وجود ذات الشريحة التي عزلت نفسها من ذلك الإستحقاق حينها لتمارس الآن نفس الدور.
فالتمثيل الآن قومي وهو قائم على حقائق الواقع الإجتماعي، وهو أرقى من مجاميع القبائل والمناطق التي يطلق عليها مجازاً تنظيمات ، والتي تفترش العلمانية وتتلحف بالديموقراطية وتري في مقاتلة النظام موبقة، وفي تحالف المحرومين خطراً يهدد مصالحهم.
فإذا كانت أطراف اللقاء إجمالاً لا تمتلك شرعية مناقشة بند أساسي من بنود إرتريا الغد أو تطرح رؤيا أو تؤمن حق- يكون بذلك قد أحال مؤتمر جامع شامل لكل قوى الشعب إلى اجتماع( (Country club
لا ندعي الكمال لملتقي أديس أببا ، قد يكون شابه بعض القصور في الجوانب الفنية ، إلا أن الملتقى من حيث التمثيل وشموله لكافة قوى الشعب يعد ظاهرة غير مسبوقة “كماً ونوعاً” في تاريخ العمل الجماهيري العريض . إذ تمثلت فيه التنظيمات بكل مشاربها : منظمات العمل الطوعي ، معسكرات اللاجئين ، قطاع المرأة ، الشباب ، الرعيل ورجال الدين ، لذلك لا يجوز أن نقارن هذا الملتقى بالمؤتمرات التنظيمية السابقة التي يحشد لها كوادر الرموت كنترول حشداً لتبصم على مقررات حزب سري أو مجموعة متنفذة لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة.
ومن العلامات الفارقة لهذا الملتقى العرض الذي قدمه ( مستر ماغنت) وهو خبير كندي في النظام الفيدرالي و مستشاراً للحكومة الكندية يعمل بالتعاون مع الحكومة الإثيوبية في هذا المجال. ما يهمنا هنا ليس التعريف به لكن المهم هو العرض الموثق الذي قدمه في الملتقى والذي يكشف واقع الظلم والتهجير الممنهج الذي يمارسه النظام في إرتريا “العفر نموذجاً” وكيف أن مناطقهم وملاحاتهم أضحت ملكيات خاصة لأهل النظام واقترح حلولاً عملية للواقع التعددي . فمع أن الخبير لم يكتشف العجلة وما سرده معلوم للجميع ، إلا أن هذه الدراسة أثارت ويا للمفارقة حفيظة المظلومين الذين يدعون بأن النظام يظلمهم ، فبدلاً من أن تجيّر الدراسة لتأكيد المظالم أصبحت هوية الخبير، وكيفية دعوته للملتقى هي القضية الأساسية!!!!
هذا يسوقنا إلى التناقض العجيب بين دعاويهم في معارضة النظام والرفض للحلول التي تفضح ممارساته!!
كالقول بأن الخبير مدسوس والربط بينه وبين وجود إيادي أجنبية تعمل على خلخلة السلم الإجتماعي !!! كأن السلم بيننا مستتب والعدل قائم!!!!!
فبدلاً من النظر للملتقى على أنه مناسبةً لرفع المظالم وإقرار الحقوق لصيانة السلم الإجتماعي المزعوم تمهيداً لإقامة دولة العدالة – انصب الأمر على نفي ما قاله الخبير رغم إمتلائه بالحق الذي قام الملتقى من إجله.
أما أهل الغيبوبة حين باغتهم غول التجرينية القومي كان حالهم كحال إبن نوح علية السلام ، منهم من إعتلى رابية الإديان ، ومنهم من أفاق بعد ثبات شمولي طويل وهو مثقل بقيود المركزية الديموقراطية ليعتصم بشعار الديموقراطية هي الحل ” ديموقراطية أفعل ولا تفعل” ، ويسوءهم جداً أن يكون غيرهم واع بذاته مدرك لهويته. ولديهم صورة نمطية شديدة السوء عن القومية وتنظيماتها مع أنهم لا يمانعون عن الإنتماء للروابط والصناديق المناطقية والقبلية؟؟؟
ويعرفون أنفسهم من خلال اللاءات : فهم غير حبش ، ولا يتحدثون التجرينية ، ولا يسكنون الكبسا ، ولا يدينون بالمسيحية – هم كالهواء لا لون ولا طعم ولا رائحة – ثقافتهم عربية وأصولهم مستوردة من جزيرة العرب بدءً من الرسول الكريم، مروراً بالخلفاء الراشدين، ومختومة ببني أمية. أما لغتهم فيتعاطون بها في أوقات فراغهم لتزجية الوقت .
من حقهم أن يمددوا سنين تيههم ماشاء لهم ، ومن حق مثقيفهم المدهونون بالنشاء مدّعي العلمانية التي لا يفقهون منها إلا الصيغ القانونية، أن ينظّروا ما شاء لهم في الديموقراطية والعلمانية ، لكن ليس من حقهم أن ينصبوا أنفسهم أوصياء على الغير وهم يجهلون ذواتهم.
فإن قضية التعدد القومي أكبر من أن يتم تجاهلها فهي من القضايا التي تستوجب النقاش والطرح الجاد لا التغييب والإنكار ، فالسودان مثال ساطع للإنكار والتعاطي المتأخر مع قضية التعدد ، وتدثير الإشكال بمصطلحات الأنظمة الشمولية “كالوحدة ، السيادة ، الإخطار الخارجية ….إلخ” بدلاً من البحث عن الحلول التي تحققها ، فها هو الآن يتجرع سم الإنفصال في الجنوب ويلوح عليه شبحه في الغرب نتيجة طبيعية لإزعانه المتأخر للحلول المطروحة.
أما ظاهرة البيانات التنظيمية التي ترمي الي تحوير وتلفيق وتبرير مقرارت الملتقي ، فهي بمثابة إعلان إعتذار صريح من هذه التنظيمات للنظام . وتؤشر إلى أن النظام هو من يحدد سقف المعارضة لهذه التنظيمات ويضع محدداتها. فإذا كنا نرفض جملة وتفصيلا دعاوي النظام بوصف المعارضة بالعمالة والإرتزاق وبيع الوطن وتقسيمه ، فإن هكذا بيانات تدلل على إنطلاء ترهات النظام عليهم ، وأنهم معارضة (صالحة!) تتقيد بضوابط وقيود و شروط النظام للمعارضة وأنهم ليسوا من تلك الفئة المارقة.
هنا نود أن نذكر تلك التنظيمات بأن بروباغندا النظام هي عبارة عن حزمة (Package) إذا حاولتم التبرؤ من تهمة تمزيق الوطن وتفتيته لحق بكم عار العمالة والإرتزاق ، فهل يضير سلخكم بعد ذبحكم ؟
لذلك لا توجد منطقة وسطى فإما إنحياز للشعب وحقوقه أو لا معارضة.
فالعفر لم يطالبوا بتبديل اسم إرتريا إلى دولة العفر الديموقراطية، كما لم يطرح الكناما الكنامية كلغة رسمية للدولة – بل يطالبون بحقهم في أرضهم وثرواتهم في وطنهم وصون هويتهم التي تلتقي في دوائرها العليا مع أغلب القوميات الإرترية – مما يعني إننا بإقرار الحق القومي نؤسس بذلك لمرحلة أرقي تتواصل فيها أقوام إرتريا وتتكامل على أرضية التنوع المؤدي للتوحد – ونحجّم عناصر التفرقة، ونزيل هواجس التغول وشكوك إبتلاع الكثرة للقلة ، ونأمن مستقبل البلاد من المغامرات الطائشة التي تعيدنا للمربع الأول- كما هو ماثل الآن إذ أعاد إسياس إرتريا في تسعينات القرن الماضي إلى نقطة إنطلاقها في عام 1961م .
بما أن العدل هو أساس الحكم فإن ميزانه لا يستقيم بالتهميش والإلغاء بل بإقرار الحقوق ، فإذا كنا نريد أن نؤسس لوطن يسع الجميع فنحن أمام مشروعين لا ثالث لهما : وطن قوامه العدل وإقرار الحقوق واحترام التعدد أو مشروع سجن كبير يقام على حقل ألغام للتأديب والإخضاع والإكراه.
.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=9170
أحدث النعليقات