كتاب هام يتحدث عن هدر الإنسان 1/3
مراجعة: زين العابدين محمد علي “شوكاي”
المقدمة:
في دراسة للدكتور مصطفى حجازي بعنوان “الإنسان المهدور- دراسة تحليلية نفسية اجتماعية” الصادرة عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب، وفي طبعتها الثانية عام 2006، يتناول الكاتب في محتوياتها جوانب هامة لحالات الهدر التي يعاني منها الإنسان العربي- المسلم، وغيره ممن هم في نفس الوضع من شعوب الهامش في آسيا وأفريقيا، وبدرجات متفاوتة من الهدر الإنساني لكنها متشابهة في أوجه كثيرة. هذه الدراسة الغنية والمعمقة للدكتور حجازي والتي تكشف لنا عن جوانب معروفة ومحسوسة لدينا لكنها كانت مهملة من إجراء دراسة ميدانية بصددها تمتاز بالجودة والدقة وتربط بين النفسي والاجتماعي، يجد فيها القارئ مادة غنية للتفكير والتأمل والتدبر، والبحث عن مكامن الداء والخطر في الذات الفردية والجماعية، وهذا قد يساعد بدوره للخروج من حالة الاستسلام لعملية الهدر، ومقاومتها والخروج منها لمن كتبت له السلامة قويًّا ومتماسكًا وصلبًا، لتصبح تجربة تعرضه للهدر ضمن رصيده من التجارب الحياتية التي قد تساعده على البحث لنفسه ولمحيطه عن مستقبل أفضل من حالة الهدر التي تمارس ضده أو من حالة التهادر التي يصبح هو جزءًا منها وغارقًا فيها، لكن بفعل الإرادة المصحوبة بالسعي والعمل الجاد يحاول الخروج منها.
قام الدكتور حجازي بدراسة سبقت هذه الدراسة التي بين أيدينا والتي سنحاول في هذا العرض للكتاب أن نتعرض إلى أهم ما جاء فيها، إلاّ أننا وجدنا من المفيد أن نشير إلى تلك الدراسة التي سبقت هذه الدراسة المذكورة ومهدت لها، وكانت بعنوان “التخلف الاجتماعي- مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور” التي صدرت عن نفس الدار في بيروت، عام 2001، في طبعتها الثانية.
بادئ ذي بدء يؤكد الدكتور حجازي في الدراسة التي بين أيدينا الآن وهي بعنوان “الإنسان المهدور- دراسة تحليلية نفسية اجتماعية”، أنه أثناء قيامه بالبحث الميداني لإكمال هذه الدراسة أدرك حجم الإحساس العام بين الناس بحالات الهدر من خلال الآهات والشكاوى التي كان يسمعها منهم لمجرد عرضه فكرة أنه يقوم بدراسة للتعرف على حالات الهدر التي يتعرض لها الإنسان العربي المسلم. والدكتور حجازي يسعى في هذين الدراستين، كما يقول بنفسه ” إلى توظيف علم النفس في خدمة قضايا التنمية الإنسانية “.
وفي تعريفه لمصطلحي القهر والهدر، اللذين هما جزء من واقع الإنسان في العالمين العربي والإسلامي عموماً، والذي هو أيضًا واقع المسلم الإرتري على وجه الخصوص، الأمر الذي دعاني شخصيًّا للاهتمام بهذه الدراسة وتقديم محتوياتها للقارئ الإرتري أينما كان، يقول الكاتب إن “القهر في التعريف القاموسي هو الغلبة والأخذ من فوق، وبدون رضى الشخص الآخر. وبالتالي فالإنسان المقهور هو ذاك المغلوب على أمره وفاقد السيطرة على المصير إزاء قوى الطبيعة واعتباطها، وقوى التسلط في آن معًا”. ويقول الدكتور حجازي عن الهدر إنه “أوسع مدى بحيث يستوعب القهر الذي يتحول إلى إحدى حالاته. والهدر يتفاوت من حيث الشدة ما بين هدر الدم واستباحة حياة الآخر باعتبارها لا شيء، وبالتالي عديمة القيمة والحصانة، مما يمكن التصرف فيها، وبين الاعتراف المشروط بإنسانية الإنسان”. ويقول أيضًا “يتسع نطاق الهدر كي يشمل هدر الفكر، وهدر طاقات الشباب ووعيهم، وهدر حقوق المكانة والمواطنة. يتفاوت الهدر إذًا بين انعدام الاعتراف بإنسانية الإنسان كحد أقصى وبين استبعاده وإهماله والاستغناء عن فكره وطاقاته، باعتباره عبئًا أو كيانًا فائضًا عن الحاجة. كما يتخذ الهدر طابع تحويل الإنسان إلى أداة لخدمة أغراض العصبيات أو الاستبداد ليضحَّى به في حروب النفوذ باعتباره الوقود الذي يغذّي اشتعالها، أو الأداة التي تبجِّل وتطبِّل لسلطان المستبد وتخدم أغراض هيمنته وتوسيع سطوة نفوذه “.
ويشير الدكتور حجازي إلى اشتراك “كل من الهدر والقهر في تفاقم المأزق المتراكم بحيث يصبح الوجود غير قابل للاحتمال والمواجهة. وهو ما يؤدي إلى بروز كل آليات الدفاع السلبية التي وإن حملت توازنًا بديلاً من نوع ما، يجعل الحياة قابلة للاحتمال، إلاّ أنها تكرس الهدر والقهر وتعيد إنتاجهما من خلال تعطيل طاقات المجابهة والتغيير والنماء والانطلاق. وبذلك يدخل الإنسان المهدور في حلقة مفرغة: يهرب من هدره وقهره (بوسائل دفاعية سلبية) كي يقع في عطالة المشروع الوجودي من خلال تبديد الطاقات الحيوية في خدمة الدفاعات التي توفر توازنًا مَرَضِيًّا”. ثم يستمر قائلاً “وفي الحالتين نحن بصدد كارثة وجودية من هدر الكيان، لا بد من الوعي بدينامياتها وألعابها البائسة المدمرة”.
بعد هذه المقدمة التعريفية التي اقتطفنا معظم ما ورد فيها من فقرات في مقدمة الدراسة نفسها نود أن نؤكد على غنى الدراسة وتنوعها وأهمية ما جاء فيها من فصول وصل عددها إلى تسعة فصول، جاءت في 349 صفحة من صفحات الكتاب، والتي نخشى أن يأتي تقديمها بهذه الصورة المختصرة مخلاًّ بما حوته من غنى وتنوع، لكن عزاءنا أنها قد تولِّد ربما لدى القارئ الرغبة في أن يقرأ الدراسة كاملة، وإذا لم يتمكن من الحصول عليها، لعله يتفكر ويتدبر في ما جاء في هذا العرض التي نحاول أن نلفت فيه نظر القارئ إلى جوهر الكثير من المشكلات التي نعاني منها كأفراد ومجتمعات، ولاخلاص لنا منها إلاّ برفع الوعي بتلك المسببات الجوهرية، والتباحث حولها، وتضافر الجهود الفردية والجماعية للتقليل من أخطارها.
ملحوظة: أثناء تحضيري لهذا العرض تحدثت مع شقيقي الدكتور/ إدريس شوكاي عن عزمي لتقديم كتاب الدكتور حجازي للقراء، وهو مشكورًا ساعدني من خلال صديق له للحصول على ملخص قام به موقع: الحوار المتمدن – العدد: 2593 – 22/3/2009، فجاء تلخيصي هذا اختصارًا لما ورد في الموقع المذكور، دون المقدمة التي كنت قد أعددتها مسبقًا وقبل حصولي على التلخيص، بمعنى العرض من بداية الفصل الثالث وحتى الفصل التاسع، وأجزاء من الفصلين الأول والثاني هو ملخص لما جاء في الموقع، فللموقع ولمن دلَّني على هذه المادة القيمة أقدم شكري وامتناني – زين شوكاي.
الفصل الأول: هدر الإنسان : محدداته وتجلياته
في هذا الفصل يتناول الدكتور حجازي قضايا هدر الإنسان: محدداته وتجلياته كعنوان رئيسي للفصل، تندرج تحته عناوين فرعية مثل ما قبل الديمقراطية الاعتراف بالإنسان وتنمية الإنسان، والاعتراف بإنسانيته، كذلك عن ألوان الهدر ومستوياته، باعتبار أن الهدر الإنساني “مرض كياني”. يعتمد الدكتور حجازي في هذا الفصل على تقرير الأمم المتحدة عن التنمية الإنسانية العربية لعام 2002، ويعتبره منطلقًا للحديث عن الاعتراف بالإنسان، وإنسانية الإنسان، مقتطفًا من التقرير بعض التعريفات مثل “أنها تنمية الناس، ومن قبل الناس، ومن أجل الناس”، مؤكدًا على أن “الإنسان هو الأساس وهو الهدف، وهو الوسيلة في كل تنمية”. واعتبر حجازي ذلك تحولاً استراتيجيًّا في نظرة هذه المؤسسة الدولية بجعل الإنسان النواة المحورية، وجعل الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً منطلق أية تنمية ممكنة ومآلها، وأن مكمن التقدم أو التخلف على حدّ سواء هو في الإنسان وتمكينه وبناء اقتداره، وأن ذلك بدوره يكمن في توسيع نطاق خيارات الناس، وتمكينهم من المشاركة في التأثير على العمليات التي تشكل حياتهم، وتحريرهم من الحرمان بكافة أشكاله وخاصة الحرمان من الحرية والمعرفة، لأكثر أفراد المجتمع فقرًا وتهميشًا، وتطور مفهوم الحكم الصالح إلى مفهوم أوسع وأشمل وهو “الأمن الإنساني”، بتأمين الإنسان من الحاجة والخوف، وكل ما عدا ذلك جهد مهدور وأمل ضائع.
ويرى الدكتور حجازي أيضًا أن كثرة الحديث عن غياب الديمقراطية سابقًا، واعتبار ذلك أس البلاء، كان مبالغًا فيه لدرجة أنه فقد دقة الدلالة وكثافة المعنى، وأهمل بصورة واضحة الحديث عن الأساس وهو إنسانية الإنسان، رغم اكتشاف السياسيين والمنظرين على حدّ سواء أشكال بائسة يمكن من خلالها التلاعب في إقناع الرأي العام المحلّي والعالمي بشيء من الممارسة الشكلية لبعض أسس اللعبة الديمقراطية لدرجة أنها تتحول إلى تغطية وتمويه وتجميل. ويرى حجازي أن الاعتراف بإنسانية الإنسان وكيانه وحرمته وحصانته وقيمته الأولية غير المشروطة تتجاوز قضايا الحرية والديمقراطية في طروحاتهما المعهودة. ويعتبر العمل الذي بين أيدينا أنه مكلَّف بإبراز هذه القيمة بالدرجة الأولى وهو الاعتراف بإنسانية الإنسان وتوضيح أشكال هدر الإنسان المتعددة الأبعاد والمستويات والألوان لتصل بالنتيجة إلى أن الإنسان هو الكائن الأكثر هدرًا لموارده المادية والبشرية في حالة غياب البصيرة والحكمة.
وفي محاولة لإغناء مصطلح الهدر بما يحمله من شحنة كبيرة، يقول الباحث إن الهدر هو استباحة للدم وإراقته وسفحه لزوال حرمته، وفقدان الاحترام للإنسان وكيانه وبالتالي التصرف بالشخص ودمه بدون موانع. وعليه يرى أن القهر هو عملية تقع على الضحية من الخارج غالبًا، ويمكن بالتالي مقاومتها والثورة عليها وإعلان حالة تمرد إزاءها، أما الهدر فيكون في الغالب عملية استنـزاف داخلية تتكالب في رأيه ثلاث قوى وتتحالف وتتآزر لتنفيذه، وإن بدا أحياناً أن هناك نزاعًا بينها حول من يفرض سلطته وهيمنته وهذا الثالوث هو: الاستبداد، والأصولية، والعصبية. ويضيف إليها لاحقًا عاملاً آخر خارجيًّا، وهذا أيضًا يعمل في تحالف مع بعض هذه القوى أو جميعها وهو تسليط تهمة الإرهاب على رقاب الناس في عصر العولمة والديمقراطية والحرية. ويؤكد أيضًا على أن المرأة والشباب والأطفال هم الأكثر تعرضًا لعمليات الهدر.
وتعتبر الدراسة الهدر الإنساني مرضًا كيانيًّا، ويتجلى ذلك في اعتبار الناس إما أدوات فهم مادة تحت تصرف سلطات الحصار والهدر الثلاث التي تم ذكرها (الاستبداد، والعصبية، والأصولية)، وإمّا أنهم عقبة ومصدر تهديد وبالتالي هم الخصوم الذين يشككون في شرعية المستبد، وإمّا أنهم عبء وحمل زائد عن الحاجة، وبالتالي يعتبرون عبئًا على رفاه السلطات وراحة بالها. وما يجعل الهدر والقهر مرضًا كيانيًّا بامتياز هو أن هذه الحالات تعيد إنتاج نفسها وتتوالد، وهنا لا مجال للحديث عن النماء والتنمية “فكل مقهور سوف يقهر من هم دونه لا محالة حين تتاح له الفرصة، وكل ضحية لتسلط ما سيعيد إنتاج هذا التسلط من خلال تسلطه على ضحاياه الأضعف منه. وكل إنسان مهدور سيهدر ما عداه من ناس ومؤسسات وموارد، ذلك أن من تعرض كيانه للتهديم لا يمكن أن يبني”.
النظام المستبد يحتكر لنفسه الثروة الوطنية وإدارة الحكم وينفرد بتقرير مصير المجتمع وتعليمه وإعلامه، ويستأثر لنفسه بحق تقرير حيوات أفراده. وحيث يحرم الإنسان من حقوقه الإنسانية فإنه يجرده من استقلاليته ومن الإدراك والوعي وتتشوه أذواقه وعواطفه. في ظل النظام المستبد نكون “بصدد هدر إنسانية الإنسان متعددة الأبعاد والمستويات والألوان بدءًا بهدر الدم وادعاء الحق في التصرف بالكيان، وانتهاءً بهدر الوعي والحجر على العقول، ومرورًا بهدر الطاقات الحية من خلال الحرب عليها والتفنن بأساليب قمقمتها (ص27). يهدر العقل ذاته باعتبار أن الوعي هو المدخل إلى التفكير والعطاء الفكري. كما قد يصيب الهدر العام المواطنة والانتماء، “وكلها تولد مآزق وجودية كبرى للأفراد والمجتمع بشكل عام”.
يتفرع عن الاستبداد السياسي استبداد العصبيات والأصوليات. تنتقل عدوى الهدر الخارجي، إذ تتغلغل في نسيج الحياة الاجتماعية، إلى هدر ذاتي اعتباطي غير واع. يفترض المرء أنه “منحوس” أو “متعوس” بالجبر، نتيجة مقدرات خفية. “هناك تحالف وطيد بين قوى الهدر الخارجية وقوى هدر الذات الداخلية (ص37). والواقع أن الهدر الخارجي لا يقيض له النجاح التام إلا بمقدار ما يتحول إلى قوى هدر داخلية ذاتية. وإلاّ فإن الاستبداد يبقى مسألة برَّانية قابلة للثورة ضدها حين تسنح الفرص.
ويتلازم مع هدر الإنسان هدر الموارد والثروات، وفي الدول النامية لا تكاد تثير فضيحة، بينما تتحول ممارسات الفساد المالي في البلدان المتقدمة إلى فضائح تطيح بالرؤوس. ويكمل السلسلة هدر المؤسسات التي تجيَّر لخدمة مكاسب ونفوذ السلطات والعصبيات (أو بالأحرى السلطات العصبية) على اختلافها… وتكون النتيجة إحكام الحصار على الإنسان وهدره. ذلك أنه حين يتم هدر المؤسسات والثروات يتم الاستفراد بالإنسان وكيانه من خلال تجريده من كل مرجعيات القوة والمنعة والحقوق… ولا مكان عند هذا الحد للتنمية والإنماء.
الناس أداة المستبد، خاصة المثقفون منهم يزج بهم في الحروب أو يستخدمون للترويج لعظمته وعلو شأنه. المستبد يوظف الأقلام والإعلاميين في تمجيده وخوض المعارك ضد خصومه. والناس هم أداة العصبيات لتعزيز شوكتها والحماس لها؛ العصبيات تلتهم أبناءها كي تتغذى وتقوى. وبدون الالتهام فإنها تضعف وتموت. الناس أدوات العصبيات والأصوليات من خلال استقطاب الأتباع وقولبتهم فكريًّا وأيديولوجيًّا، وتحويلهم إلى مبشرين بشعاراتها. …. العصبية كما الأصولية، تبنيان قوتهما ومنعتهما على التبعية والولاء المطلقين (ص38).
“الاستبداد ليس مجرد حجب الديمقراطية أو منع الحقوق، بل هو علاقة مختلفة تقوم على اختزال الكيان الإنساني للآخرين إلى مستوى “الرعية” التي تعني لغويًّا القطيع من الأغنام” (ص29). وبهذا تغدو الديمقراطية في واقع الأمر لغوًا فاقد المضمون ووسيلة تحايل. “ولا عبور إلى الديمقراطية بدون استرداد الإنسان لحقه في إنسانيته ومكانته”، ولا ديمقراطية ممكنة إذاً بدون هذا الشرط المسبق المتمثل في القضاء على الهدر الوجودي، واستعادة قيمة الكيان الإنساني وحرمته وأحقيته (ص30).
الفصل الثاني : العصبيات والهدر
يتحدث هذا الفصل عن علاقة العصبيات بالهدر كعنوان رئيس نجد العناوين الفرعية التالية: بنية العصبية الداخلية، وعلاقة العصبية مع الخارج، ثم العصبيات والهدر الداخلي والتي تتجلّى في القبول المشروط وعلاقته بالهدر، وثقافة الولاء بدلاً من ثقافة الإنجاز، والتبعية وأخلاق الطاعة، والعلاقة الطفلية وغرس الطفيلية، ثم في الجزء الأخير من هذا الفصل يتحدث الكاتب عن العصبيات والهدر الخارجي وعلاقة العصبيات بهدر الوطن، وهدر المؤسسات والطاقات المنتجة، وفيروس العنف وحروب الهوية.
يقول الباحث يبدو أننا بحاجة لدى دراسة واقعنا إلى توسل المنهج الخلدوني في دراسة العصبيات، أكثر من توسل مناهج البحث المعمول بها في الغرب الصناعي…. ذلك أن العصبية تعرقل التنمية، وهي تتضمن العديد جدًّا من القوى المقيِّدة لإطلاق الطاقات وصحة المؤسسات، بما فيها هدر الإنسان و المؤسسات والأوطان ذاتها. ناهيك عما تحمله من فيروس العنف والاقتتال. العصبية تقوم على الأحادية ولا تقبل التنوع، كما لا تعترف بالاختلاف. ولم يجانب أركون الصواب حين قال أن العصبيات تقيم دولاً لكنها لا تستطيع بناء أوطان (ص44). الانغلاق يوهن الانتماء الوطني، وهناك تبادل أدوار بين العصبية والأصولية. “العصبية، من حيث بنيتها، ذات مضامين عدوانية، وتحمل شحنة عدوان قابلة لأن تتحول إلى صراعات دامية وتصفيات مع الخارج. …يؤدي الانشطار الانفعالي داخل العصبية بين الشر والخير في حالات الشطط إلى تركيز الإنسانية وكل قيمها السامية داخل العصبية ذاتها، مما لا يترك مجالاً للاعتراف بإنسانية الآخر (ص68). من خلال العصبية أو الأصولية تنهار العلاقات الإنسانية. … “الأسطورة المتبادلة تجعل أسطورة الحق والطيبة والهداية أو النقاء تقضي على أسطورة الفساد والضلال. هنا يصبح فعل القتل ليس مبررًا فقط، بل يرقى إلى مستوى الواجب والرسالة النبيلة” (ص69).
ويذهب ابن خلدون إلى أن بين العصبية والأصولية رابطة وشيجة. هنا يتم هدر كيان الأعضاء على مستوى البنية الداخلية، وهدر الآخر/الغريب الذي تتكون بنية العصبية من خلال التنكر له والصراع معه. ومع هذا الهدر المزدوج يأتي هدر المؤسسات وهدر الوطن، حيث لا تعترف العصبية بشيء فوق كيانها، ولا حتى خارج كيانها ذاته. العصبية نظام مغلق مدفوع بدينامية الجمود والعادة والتقليد والحفاظ عليها؛ وبذا فهي تعيد إنتاج ذاتها…. إنها هوية ولاء وانتماء بدلاً من أن تكون هوية بناء وإنجاز. يتصف نظام السلطة فيها بالمرتبية حيث يحتل الزعيم نواتها. وتمارس مرتبية دوائر السلطة فعليًّا من خلال العلاقة البطركية التي تتصف بالفوقية / التبعية. الكلام ليس حوارًا بل هو إملاء فوقي. إنه يفرض السمع والطاعة فقط، ولا يقبل ردًّا ولا حوارًا، وتمارس العلاقة عبر جميع مراتب السلطة ثم تمارس على الطفل والمرأة. ولا تنتج معرفة جديدة بل يجري التمسك بالتقاليد (ص47).
العصبيات تقدم الولاء على الإنجاز، فتهدر عملية التنمية، ولا تعود العصبية بحاجة إلى المعارف أو الأبحاث؛ ذلك أن التنمية ليست في الوارد. “على عضو العصبية أن يقدم دومًا البرهان على ولائه المتجدد وباستمرار، وإلا حلت عليه النقم محل النعم… فلا مكان للحوار المتكافئ والتساؤل والنقد، ناهيك عن المطالب الجريئة والطروحات المغايرة. كل ذلك يعتبر تطاولاً أو على الأقل توصد الأبواب أمامه لأنه يبلبل النفوس ويهيج الخواطر ويزعزع الاستقرار … ما يهدر هنا مباشرة هو الوعي والعقل، ومعهما كل معرفة فاعلة أو ذات قدرة تغييرية؛ من هنا تأتي بذرة الاستبداد، وفي هذه التربة والمناخ نجد الظروف المواتية لتفتحها وترعرعها… وتستكمل العصبية بنيتها النفسية الاجتماعية بالتعصب (ص48). تكتسب العصبية في نظر أعضائها دلالة المثل الأعلى والخير المطلق، بينما تسقط على الخارج دلالات سلبية ومشاعر الحذر والخشية والعداء. يتحول الخارج إلى أسطورة الشر والسوء التي يجب محاربتها واجتثاثها. وبذا تؤسس لهدر الداخل والخارج معًا (ص49). ويقصد بالقبول غير المشروط الاعتراف بإنسانية الإنسان ككائن قائم بذاته وكمشروع وجود، ولا يعني ذلك مطلقًا القبول بسلوكه الخاطئ أو مواقفه المؤذية له أو للآخرين. في علم الصحة النفسية يشكل قبول إنسانية الإنسان المدخل لعلاج سلوكه واضطراباته…أما القبول المشروط فهو المدخل لكل سلوك الكذب والخداع والمراوغة والتمويه، ما دام الإنسان ممنوعًا عليه أن يكون بذاته ولذاته وأن يكون مشروعًا قائمًا بذاته (ص54). ولذلك فإن “العلاقة بين العصبيات ومؤسسات المجتمع المدني هي علاقة صراع على النفوذ والمغانم، وليس علاقة تقوية وتعزيز تؤطر القوى الحيوية لأي مجتمع، وتشكل مرتكز متانة النسيج الاجتماعي وحصانته وفاعليته ونمائه(ص52). وكل حديث عن الديمقراطية لا يمكن أن تكون له مصداقية أو فاعلية في حالة القبول المشروط هذه (ص55).
ومع العصبية تختل نظم الإدارة والتنظيم. ونظرًا لأن لكل خطة سياسية خطتها التنظيمية فإن الخطة التنظيمية القائمة على الولاء وتعطيل الفكر يستحيل أن تخدم خطة التحرير والتقدم؛ وتعطل عملية تطوير العلم واكتسابه وإدخاله في الإنتاج الاجتماعي ومعاملات الحياة اليومية. “يحدث التقدم من خلال تجاوز الأبناء للآباء، ومن خلال تجاوز المجتمع لحالته الراهنة إلى حالات أكثر حيوية وفاعلية وجدة وتعقيدًا. ويحدث التقدم العلمي من خلال التجاوز والقطيعة المعرفية تحديدًا؛ ذلك أن خاصية العلم هي النقد والنقض وقابلية التجاوز….. أما المعرفة اليقينية التي تقوم على الجواب الواحد الصحيح، والتي تستمد قوتها من إسباغ اليقين عليها وبدون وجه حق من خلال التمسك بالأصول وأصالتها الماضوية وبالثوابت، فإنها تؤدي حتمًا إلى خصاء الفكر، ومعه يوصد باب المعرفة والعلم المتجدد الحي. … حين يخصى فكر الأبناء وتشل حيويته وانطلاقاته، فإن المجتمع ذاته هو الذي يفشل، يقتل إذ يتحول إلى جثة جامدة ثباتية (ص58). القوانين الإدارية للنظم العصبية متخلفة ولا ترقى إلى مستوى القوانين الحداثية. “في العصبيات يتحكم قانون الغلبة؛ العصبة ذات الشوكة الأقوى هي التي تغلب وتسود وتبسط نفوذها من خلال إلغاء الأطراف الأخرى. وإذا لم تتم الغلبة فإن سجل الصراع يفتح كحالة دائمة تستنزف البشر والموارد في حالة من العداء الدائم….تجد العصبية في لحمة التعصب والانشطار الانفعالي داخل/ خارج مبررًا لخروجها وصراعاتها المشروعة” (ص46). تسارع العصبية المكتوب لها الغلبة لتطلق العنان لذوي الولاء المضمون من أعضائها كي يجنوا من ثمار كروم الثروة الوطنية، نهب ثرواتها انطلاقًا من هذه الثقافة العصبية يصبح ظاهرة عامة الانتشار والتكرار.
الأصل في مؤسسات المجتمع المدني أن تقوي اللحمة الوطنية وتعزز شبكة النسيج الاجتماعي من خلال تأطير علاقات المواطنين؛ إلا أنها في مجتمع العصبيات المتصارعة تتحول إلى مراكز نفوذ لهذه العصبيات (ص64). كل من يعتمد على كفاءته بدون عصبية يهمش ويبقى خارج اللعبة، وبالتالي يتعرض للعديد من ألوان الهدر لمكانته وكفاءته ومعنوياته، وعلى نطاق واسع (ص66). لا يجد الواحد من هؤلاء ذاته في العمل، ولذلك فهو يجتر المعاناة والمرارة وخيبات الأمل، ويعيش غريبًا في مؤسسته. وبذلك يتدنى الانتماء إلى الوظيفة وتتراجع جذوة الحماس للأداء المميز، وتتفشى مشاعر اللاجدوى، ومعها الاستسلام والنكوص إلى مستوى الحاجات الأولية والرضا بتحقيقها. يعيش الإنسان مهدورًا وطاقته مهدورة وكفاءته مهدورة وعطاؤه مهدور. وتصاب الهوية المهنية بالوهن، ومعها تصاب الروح المهنية ويتحول الهدر الإنساني إلى هدر وظيفي: لماذا نكترث ما دمنا ضائعين ومحكومين بالتجاهل وغياب التقدير (ص67)
والجماهير المهمشة تظل احتياطيًّا للتضحية بها في ما تعتبره العشيرة مجدًا. إنهم رصيدها الاستراتيجي من وقود العنف، تزج بهم في الحرب الحامية بعد أن تزينها لهم على أنها تضحية من أجل قضاياها السامية. و”الميت في الحياة” يزين له وهم الحياة الخارقة من خلال زجه في معارك حروب العصبيات وبطولاتها البائسة. نجد العصبيات تلجأ للخارج تستقوي به في صراعها. … بينما العصبيات التي تشكل أنظمة مغلقة يتعذر عليها التبادل والتداول والمشاركة أخذًا وعطاءً، ومع هذه الحالة يصبح الكيان الوطني مجرد كيان شكلي مهدد بالانفجار في أي لحظة يتغير فيها نظام القوى. إنه كيان مفتت لا يستطيع النماء لأنه لا يتمتع بالمناعة والحيوية والدينامية. وإذا هدر الوطن فإن مؤسساته ستهدر بدورها، وكذلك طاقات أبنائه وفرصهم، ما عدا القلة المحظية منهم (ص63).
في ثقافة الإنجاز التي تشكل قاعدة كل نماء أو بناء لا يرى المرء من مفهوم لذاته أو تصور إلا باعتباره كائنًا منجزًا يحسن تنمية طاقاته وتوظيفها. كما أن صناعة المستقبل قائمة على الجهد الذاتي والجماعي بما فيه من تجديد وإبداع. في ثقافة الإنجاز تتحدد المكانة انطلاقًا من الجدارة وحدها. الجدارة هي المرجعية في الحكم والتقويم والامتيازات. هنا يكمن مأزق العصبيات على اختلاف أنواعها وأشكالها. ذلك أنه لا إنسانية ممكنة لأي فرد إلا من خلال الشرط المؤسس لها، والذي يتمثل في الاعتراف بإنسانية الآخر. وبالتبادل يفتح باب اللقاء الإنساني والشراكة الإنسانية في الوجود والمصير (ص70).
الفصل الثالث ـ الاستبداد والطغيان وهدر الإنسان
يستعرض الباحث عملية إدارة الإدراك لدى المجتمع وتكييفه لحكم الطاغية، ويتجلى هذا في سلوك الفصائل تجاه الناس، رغم أنهم ينتمون لنفس الشريحة التي يمارسون ضدها كل أشكال القهر والهدر.
ولا يكتفي المستبد بأدوات القهر والهدر، بل يفرض ممارسة طقوس من شانها تطويع الجمهور. إنها آليات تسخير بهدف فرض الطاعة وترويض الجماهير. “يمدنا علم نفس التحكم بالسلوك بالعديد من المبادئ التي تلقي الضوء على ذلك كله، بدءًا من ضبط السلوك الخارجي ووصولاً إلى ضبط الذات والأفكار وحتى النوايا من الداخل (ص87)… همّ الطغيان الأول ليس ردع خصومه؛ بل تدميرهم وإفناؤهم. لا يكتفي بالسيطرة على الناس من الخارج، بل ومن الداخل أيضًا، من داخل ذواتهم على مستوى السلوك والفكر والإرادة وحتى الوعي والكيان (ص79). لدى الإنسان لا تعرف غريزة السيطرة حدودًا. والواقع أن الحاجة إلى السيطرة (عن طريق المعرفة) هي نزعة فطرية للفعل ولتعلم كيفية الفعل. وهي تتضمن لذة تنفيذ وظيفة ما بنجاح. والإنسان هو الكائن الوحيد الذي تتجاوز نزوة السيطرة لديه الحاجة إلى التحكم وتتحول إلى نزوة سطوة، تهدف إلى الاستحواذ على الموضوع والسيطرة عليه بالقوة (ص83).
الطاغية يقبل الممالأة والانقطاع له في السعي والإرضاء. ومع الزمن يبادر الأتباع لرصد رغباته بدون إشارات ويسرعون في تنفيذها. فلا قيمة لكفاءة بل للولاء؛ وحالما يغدو الولاء موضع شك يفقد التابع حتى إنسانيته. يترك الطاغية للأتباع مقدارًا كبيرًا من المبادرة كي يحملوا الوزر، وكي يبدو الأمر وكأنه لا دخل له فيه. يتركون أذواقهم لذوقه ويستلبون ذواتهم ويعلِّمونه أنه القادر (ص85). يسكرونه بنشوة العظمة والتفرد…. لا أمان لأحد ولا غفران لخطأ….أما السند الخارجي فيتمثل بتوسل عقيدة أو مبدأ أو قضية كبرى سامية ذات طابع تاريخي أو كياني وحمل لوائها. … إننا بصدد نوع من التماهي أو الحلول: الأمة أو القضية ممثلة بشخصه، وهو رمزها وبطلها وضمانتها (ص86).
ترويض الإنسان يتجاوز السلوك الظاهري الحركي وصولاً إلى تشكيل الإدراك والأفكار والقناعات والعواطف، بحيث يمثل امتلاك الإنسان من الداخل، وعلى مستوى الوعي الذاتي والخبرة المعيوشة أعلى مراحل التحكم. استمرار التحكم يمر دومًا بمبدأ أن لا ضمانة لأحد من الأتباع، ولا دوام للحال، وهو ما يضعهم دومًا في حالة امتحان الولاء، وإثبات جدارة التبعية للمستبد وجدواها في خدمة سطوته…. وهناك التعزيز السلبي، الذي يلعب على الحاجة لتجنب المنغصات والمنفرات. … بذلك يشل التفكير وصولا إلى شل النية في النقد أو التساؤل؛ ويتعمم الأمر حتى يصل إلى إبطال الوعي ذاته بما هو استيعاب فكري ناقد ومتسائل. وهنا يتحول المرء على ذاته رقيبا، ويتم تمثل المخابرات ذاتيًّا إيثارًا للسلامة (ص91).
يحل المستبد، بعد أن يتحول إلى زعيم مطلق القدرة والسمو في نفوس تابعيه المفتونين بعظمته والسعداء بتمثلهم له، محل كيانهم الشخصي، بل يصبح هذا الكيان الذاتي قبس من كيانه هو (ص100). أقصى مستويات السيطرة وأكثرها فاعلية تتمثل في أن تكون مرهوبا ومحبوبا في الآن عينه، فبذلك تتحصن المكانة المتعالية التي ترنو إلى احتلال دلالة الرمز. آليات التفخيم والتبجيل . … انطلاقًا من المبادئ النفسية والاجتماعية تتم وفق عملية مبرمجة جيدًا ومشغولة بمهارة، من الاقتران الشرطي بين شخص المستبد والأعياد والمناسبات الوطنية وحتى مباريات كرة القدم، لحمة الانتماء والتعلق والاعتزاز…. يصبح المستبد هو الوطن، والوطن هو المستبد (ص101).
إضافة إلى مصادرة الهوية والذاكرة والتماهي بهما هناك السيطرة على المجال الإدراكي للناس… حضور مكثف يشكل حالة غمر إدراكي ـ إغراق الإنسان بالمثيرات البصرية والسمعية، والهدف تشكيل قناعات الناس والتلاعب بالعقول، وصولا إلى دفعها إلى عواطف معينة وسلوك محدد. … يندرج ذلك ضمن ما بات يدعى إدارة الإدراك ـ التحكم بأفكار ومواقف وميول الآخرين، أو بالأحرى تشكيل ميولهم وقناعاتهم بما يخدم الأهداف المرسومة. وتكون الخطوة التالية هي التحكم بالسلوك والمواقف. الغمر من خلال التكرار والبلورة و التركيز على الموضوع وإبرازه بشكل لافت هي بعض آليات فرض الموافقة (ص103).
ووراء بعض مظاهر الحرية والليبرالية هناك آلية الضبط والقمع البوليسية السياسية في فاعليتها. تعمل بصمت وتكتم فاعل مع القلة القليلة التي تشكل عقبة أمام سطوة الاستبداد. … علوم الأمن والمخابرات وتجهيزاتها هي الأكثر تقدمًا في عالم القهر…أما علم الغيب، ونقصد به استغلال الدين وسيطرة بعض رجاله على التحكم بالغيب، تفسيرًا وتأويلاً، واحتكارهم لهذه السلطة المعرفية من أجل ترويض الناس من خلال كل آليات التحريم والتحليل المعروفة. ولقد بلغ الأمر بهم إلى تكفير كل فكر…. إننا أمام حالة خصاء فكري فعلي هو وحده الذي يضمن السلطة لهؤلاء، وهم بذلك يصبحون أكثر حلفاء الاستبداد السياسي، حتى وهم يدخلون في صراع معه، ذلك أنهم ينتجون نماذج من البشر مسلوبة المرجعية الذاتية وبالتالي جاهزة للانقياد للاستبداد السياسي والديني معًا.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=9464
أحدث النعليقات