القوميـة بين معوقـات الإعتراف.. وصناعـة الطبيعـة
حامد إزاز – لندن
“لا يستقيم الظل والعود أعوج”
لست بنية الرد على أحد بقدر ما أن مقال صاحب التنظير والتنزيل المنشور في النهضة بتاريخ 29/09/2010 جعلني أدرك بأننا أمام ظاهرة أو عقلية غيبية مثقلة بالهزائم النفسية والإحباط المسكوت عنه في تاريخ مجتمع بأكمله – وإلا لما ساق علينا مقاله ذا العشرة أمتار ليغطي ماانكشف سهواً من سوءة القبيلة التي مازالت تحكمنا رغم محاولات الإنكار والطمس الإزلية.لمجرد أن هناك من يطالب بحقوقه !
فسيل البيانات والمقالات التي تدفقت عقب الملتقي – ودمغ إعلان أديس أببا للقوميات بما ليس فيه ، وتحميل فقرة تقرير المصير لمدلولات غيبية – يؤكد على حقيقة واحدة مفادها: – أننا لا نقرأإلا بنوايا مسبقة مساقين لمشيئة مجهولة ، تشيء بأن وراء الأكمة ما وراءها.
لأن إعلان أديس أببا لم يعبر إلا عن موقف مندد للمظالم التي نعاني منها جميعاً و لا إشارة فيه لتقرير المصير بالمدلول المسيطر على مخيلة الهزيمة. ( سأنشر نصه مترجماً من الإنجليزية في حين آخر)
ولا فقرة تقرير المصير في بيان الملتقى والتي تقول نصاً : ” أن الملتقى يؤكد على حقوق القوميات ومساواتها ، وضمان تقرير المصير في دستور دولة إرتريا الديموقراطية الحديثة ” بمعنى أنه لم يتخذ قراراً، بل ترك المسألة ليتم إقرارها بواسطة الشعب الإرتري عبر مؤسساته المستقبلية . فدستور دولة إرتريا الحديثة القادم لا يتم إقراره إلا عبر مراحل قانونية متعددة ، والإستفتاء على المسائل المصيرية هو أحد مراحلها.
كما أن الملتقي لم يكن يستدعي كل هذه الضجة التي أثيرت حوله ، لأنه لم يفعل أكثر من أنه أرسى أسساً للحوار الإرتري – الإرتري، قوامه الإعتراف بالتعدد والتنوع ، لذلك كان من الطبيعي جداً أن يطمئن كل الأطراف والقوي التي شاركت فيه وحتى التي لم تشارك ليخفف من حدة توجسها، تمهيدأ لقبول الإختلاف كمقدمة أولى لأي حوار حضاري بين الشعوب ومكوناتها الداخلية .
كل ذلك ساقني للكتابة عن دوافع ما نحن فيه من تيه ..
هي ظاهرة إبتدأت منذ التكوين- فالإيطاليون عندما أسسوا “مستعمرةإرتريا” إقاموها على مكونات إثنية من مرتفعات ومنخفضات إرتريا وسواحلها البحرية – وفي حركة هذه الإثنيات- مداً وجزراً- كانت مكوناتها الثقافية تبحث عن محددات هويتها الداخلية لإثبات وجودها ، كما نزعت في ذات الوقت لتأكيد الروابط بينها والمكونات الإثنية الأخري التي تجاورها بحثاً عن عناصر التفاعل الإيجابي لتأسيس المشترك فيما بينها.
عليه قامت العلاقات بينها – بشكل متفاوت – فعلى المستوى الرأسى- حكمها عامل الإختلاف الديني ، ومتّنها أفقياً عامل الدين الواحد – لذلك لم تنشأ بينها أي صراعات تذكر – لأن نسيجها البيني تشكل على أساس الإعتراف المتبادل بين مكوناتها الثقافية ، على مبدأ سيادة الإحترام والقبول وتبادل المنافع على كل المستويات.
حتى إندلاع الثورة المسلحة التي كانت ردة فعل لما شكل تهديداً مشتركاً للعلاقات التي نشأت بين مكونات الشعب الإرتري . لكن طريقة التعامل لتجربة الثورة مع المعطي السابق قد قلبت العلاقات رأساً على عقب – فكما كانت في بدأها تحالفاً لمكونات إجتماعية متعددة، كان من المفترض أن تستصحب معها تلك العلاقات في البناء الداخلي لحركة الثورة – تنظيماً وممارسة – لكن ما ساد قد عبر بشكل جلي عن ضعف العلاقة بين المنطلقات النظرية والتطبيق من جهة و بين قوى الثورة من جهة أُخرى – فالوسائل لم تكن سوى إجتهادات النخبة – أما ماكان يربط الجماهير بالثورة فهو ذلك الخيط الرفيع المعبر عن آمالها وأحلامها في تحقيق الإستقلال.
فكانت النتيجة وأد التحالف الذي تأسست عليه قوى الثورة في مهده . فالهفوة التي إرتكبتها النخبة كانت بمثابة القفز فوق الواقع الإجتماعي وإلغاء مراحل نموه الطبيعية، معتقدين أنه بالإمكان إختزال هذه المرحلة من تاريخ النمو إلى ما بعدها، وأعتبروا التنادي بالقبيلة عورة – (لكنها كانت تمارس سراً ولا تستدعى إلا لتوزيع المناصب الفخرية.) فكانت الطامة الكبرى أن دخلت الثورة في تضاد مع أركانها الأساسية، التي أخذت في الإنفضاض عن التنظيم شيئاً فشيئا . مما أدى إلى حصر السلطة وتكدسها في أيد فئات معينة – غابت عنها الشفافية وانعدمت المحاسبة- لذلك لم تتبين الثورة وجهتها فضلّت طريقها بغياب( الدليل). من هنا بدأ تأجيج الصراع في جسم التحالف المكوّن للثورة لأول مرة في تاريخ حياته.
كانت البداية مع تجربة ( المناطق العسكرية) التي لم تُبنى على الإشراك الحقيقي للمكونات الإجتماعية ،لأنها تجاهلت التمايز البيني وضرورة الإعتراف به ، والدفاع عن الحقوق الفردية والمشتركة، بقدر ما كانت تقسيماً لتسهيل إدارة العمل الثوري.
تصاعد الصراع على إثرها بين المجموعات القبلية المختلفة ، لإحساسها بالغبن الإجتماعي وعدم رضاها عن السياسات التي غذّت الفوارق بينها – بلغ أوجّه في إقصاء مكون أساسي من قوى الثورة الذي تم وصمه (بالثورة المضادة) حتى وصل الأمر حد التصفية الجسدية.
فالعقلية التي تعاملت معه على ذلك النهج الإقصائي والوصاية الفوقية للفئه التي تسيّدت أيدلوجياً لا تزال هي نفس العقلية التي نعالج بها خلافاتنا حتى الآن.
أما الكبسا فكانت الإستثناء الوحيد من هذه التجربة – فعند إنخراطهم في الثورة كان سهلاً عليهم جداً أن يميزوا وجهتها ، ويدركوا أنها لا تمثل مصالحهم بأي شكل من الإشكال – وذلك لنضج الشكل القومي عندهم ، وتطور علاقات الإقتصاد الإجتماعي في مجتمع كبسا الزراعي على عكس العلاقات الرعوية السائدة في مجتمعنا. لذلك تمكنوا من اللعب على هذه المتناقضات واختراق جسم الثورة ونخرها حتى العظم.
كل ما سبق ذكره كان بمثابة المقدمات التي مهدت للهزيمة التي مني بها “التنظيم” ، والتي ما زلنا ننكرها حتى الآن، وهنا (يكمن بيت القصيد)
حيث كان حرياً بنا التوقف عندها – الإقرار بها والبحث عن أسبابها ودوافعها وتقييم التجربة بكاملها ..
فرغم كل المتغييرات التي جرت من حينه وحتى اللحظة ! نظل مصرين- وبإباء- على عدم الإقرار بذلك – كأن شيئاً لم يحدث!! – بدليل إصرار مكونات الإزمة على الإستمرار على نفس نهجها السابق ، وإدعاء الكل بأنه الوريث الشرعي لذلك التنظيم رغم التشظي والتآكل الذي أصاب الجسد بأكمله.
وهنا أود أن أذكر بأنني لا أطالب بمحاسبة التاريخ خارج إطاره الزمني ، بقدر ما أدعو إلى إستنطاقه لاستخلاص الدروس والعبر.
فما نراه اليوم ما هو إلا نتيجة لهذا الإصرار الأعمى عل المضي قدماً حاملين معنا جسماً مترعاً بأثقال الهزيمة وبأخطاء التجربة وإخفاقاتها – وكل ممارساتنا لا تعدو أن تكون إلا إجتراراً لنفس الإخطاء – وذلك لغياب نقد التجربة برمتها .
نتوقع من رموز تلك التجربة والذين ما زالوا بيننا أن يكونوا شاهدي عصرهم ، وأن يفتحوا لنا مغاليق ما استعصي على الفهم من تلك التجربة ، لنسبر معاً أغوار الهزيمة ودوافعها –إذا كنا حقاً نريد الخروج من هذه الدوامة – ونصون فكرة الوطن الذي يعبر عن رغبة كل مكون من مكونات هذا الشعب – وليس رغبة بعض فئاته تسلطاً وقهراً ووصاية !!
فها نحن- وبنفس عقلية الوصاية التي كانت سائدة حينها- نكرر نفس الفعل برفض مكون آخر، وقد نحمل السلاح ضده أيضاً كما حدث في الماضي غير عابئين بالنتائج الكارثية التي أدى إليها ذلك الفعل . وعلى هذا المنوال يطل علينا ذات التناقض الجرثومي في كل مرحلة فاصلة من تاريخ حياتنا .
فبعد كل التدمير والتشويه الذي حاق بهذا المكون الإجتماعي – بفعل الإستعمار أولاً ، والذاتي ثانياً ، وبقوى الإستعلاء القومي من كبسا أخيراً ، (والتي أتى نظامها ليقضي على ما تبقى من الخصوصية الثقافية لهذا المكون الإجتماعي) يأتي الإنكار والرفض على هذه القوي أن تطالب بحقوقها مفترضين العافية في التجربة المشتركة التي خاضها هذا المجتمع – ونبني عليها قياساً ما نطالب به هذا المكون بالبقاء قصراً في بيت الطاعة!! وبدلاً من معالجة الأصل نتوه في التفاصيل..
فعندما تنادي هذه المكونات بحقوقها الآن ، يخرج علينا من ينكر عليها هذا الحق لأن جسدنا لا يناسب “ثوب” التعريف العلمي للقومية(!!) بدواعي أنها مفهوم مستورد – ناسياً بأن كل ما نتعاطاه هو مستورد بما فيه مفهوم الدولة (نتاج غربي) – فلماذا نحن باقون عليه ؟ وإذا كنا دعاة تأصيل – لماذا لا نعود إلى دولة المفكر علي المزروعي الداعي إلى تأسيس الدولة الأفريقية على أساس موروث التعاقد الإجتماعي وفق القوانين التي انتظمت العلاقات القائمة بين مكوناته؟
كما يغالي البعض في وصم المسألة القومية بالنبت الشيطاني الذي ظهر بشكل مفاجيء في ساحتنا النضالية !! وفي أحسن تفسيراته بأنه تدخل خارجي! في إلغاء تام لواقع التكوين الإجتماعي وتطوره التاريخي – كأن هذا التحالف الإثني لم يكن هو الجسم الذي تشكلت منه قوى الثورة!!
حيث كان من المفترض أن نعزو مآل الأوضاع على مستوى الساحة السياسية الإرترية عموماً ، إلى تكالب المظالم واستفحالها واستعصاء آفاق الحل عبر العمل الإرتري المعارض ، واحتدام الصراع واستقطاباته الحادة ، بدل اللجوء إلى الإفتراضات الغيبية.
فلا التنظيمات ذات الصبغة الدينية – التي تري أن الحل يكمن في الثنائية الدينية ، باعتبار الدين عاملاً موحداً قادرة على إيقاف عجلة انشطاراتها – ولا التنظيمات التي تدعي الوطنية – دون غيرها – تمكنت من توسيع ماعون إطارها خارج نطاق القبيلة.
والمفارقة التي تدعو للدهشة أن تلجأ هذه التنظيمات الدينية / والعلمانية – رغم التناقض الواضح بين طبيعة تكوينها الإجتماعي ( القبيلة ) وبين المسمى ( السياسي ) – إلى رفض الآخريين بنفس حجة الرفض التي تمارس ضدهم من قبل النظام الإقصائي ومن يصطفون معه !!
ليصل الشطط في جملة ما ذهبنا إليه إلى في سياساتنا الإقصائية- ضد بعضنا- حد التماهي مع أسياس الذي إعتبر الشعب الإرتري : “قاصراً لم ينضج بعد ليعي مفهوم الديموقراطية ويستوعب سبل التعاطي معها” – بأن ننكر على شعبنا الآن “ المطالبة بحقوقه بحجة أنه لم يبلغ سن الرشد القومي بعد!!”
لكنه اضمحلال الذاكرة لمجتمع انقطعت أواصره بالماضي وفقد وسائل الرؤيا الصحيحة لحاضره.
فإن شبح صراعات الماضي يحوم بيننا ماثلاً بكل تفاصيله و شخوصه – فنفس أقطاب صراع السبعينات هم أبطال صراعات اليوم ، يحركونه من طرف خفي لبواعث ثأرية لا يكتوي بها أحداً غيرنا – وهي خصم من رصيد هذا المجتمع – فهل من سبيل لإيقاف هذا التداعي المهلك ؟؟؟
اخيراً : لا يستقيم الظل والعود أعوج ، فإذا كنا نريد أن نحافظ على وحدة هذا الكيان من التمزق ، علينا أن نصون وحدة بناءه الإجتماعي – لأنه تمزق بالفعل .. وإعادة التأسيس لا تتم إلا بإعادة الإعتبار إليه باحترام تعدد ثقافاته ورغباته في الوجود الطوعي وليس القسري المفضي لتأجيج الصراع ، لأن الطواعية هي أصل الفطرة البشرية
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=9546
أحدث النعليقات