أبعري: تحميه شرائع الأرض والسماء
عظام من خزف، عنوان لمجموعة قصص قصيرة ألفها المبدع الإرتيري الأسير إدريس سعيد أبعري، فك الله مع رفاقه قيد أسره. وعظام من خزف قصة قصيره تعالج بكثافة ودقة معاناة جرحى حرب التحرير الوطنية الأرتيرية وفيها يغوص المؤلف بالوصف التفصيلي الدقيق لحالات الاصابات العميقة، من تهشم العظام، وتشققاته، ومن تمزقات الأعصاب، وتلفه.. ومن التشوهات الخلقية لجمال وجه الإنسان، وحسن قوامه، ويطنب مبدعنا الخلاق بالوصف الأدبي المميز لأهات، وأناه الجرحى.. ولا ينسى في خضم الأوجاع قفشات نكاتهم الساخرة عندما تشتد عليهم موجات الآلام في أناء لياليهم الطويلة المؤلمة، وفي أطراف نهاراتهم البائسة.. وأسيرنا البطل – أبعري – هو واحد من هؤلاء الأبطال، قصف جسده في معارك التحرير البطولية، وهو لم يزل في ريعان شبابه، فتهشمت سلسلة عظامه الفقري. ومزق لحمه، وأتلفت أعصابه..، فأصيب بعاهه شلل دائم، وظل في حياته يعاني نزيف دموي ونخاعي مستمر..!. وأبعري، الوطني المبدع لم يستسلم لقدر الإعاقة الجسدية، ولم تعجزه العاهة المستديمة، ولم تشغله آلام النزف الدائم.. عن المقاومة والكفاح الوطني. فابتكر للمقاومة والكفاح أسلوباً آخر، وحمل سلاحا آخر غير سلاح المدفع والرشاش..، فاعتكف منكفئاً على نفسه يفكر بجدية وحماس، وهو مازال ينزف دما، ويقاسي آلام الجرح العميق في غير مكان من جسده الممزق بالرصاص، فقاده تفكيره ليجعل الكتاب رفيق دربه، وأنيس وحشته يستنطقه، ويتدبر معانيه، ويأخذ منه الحكم الموضعة فيه. وأبعري لم يجعل الكتاب صديقاً له ليواسيه عما أصابه، أو ليشغله عن آلامه وأوجاعه. أو ليتسلى به في وقت فراغه الطويل..، وأنما قصده منبعا للحكمة يستمد منه طاقات المعرفة الخلاقة، ويستنير به طريقاً جديداً في مشوار مقاومته، ويستلهم منه أداة جديدة للتحريض على القتال، وأسلوبا نافذا لإصلاح الأعوجاج، وتقويم الانحراف في صفوف الأصدقاء والأحباب..، فحقق منه ما أراد. وانطلقت من سرير الاستشفاء طاقات ابعري الابداعية تتفجر. وعلى مدى سنوات الكفاح الوطني المرير ظل مقاوماً جسوراً، فعرفه شعبه محرضاً سياسياً. مقنعا، وداعية اصلاح يتخذ من العقلانية المجردة سبيلا لدعوته. وعرفناه نحن أصدقائه كاتباً مرموقاً يمتطى صهوة القلم، ويطلق سهام الكلمات النافذة، فيصيب بدقة كبد الحقيقة بأسلوبه الأدبي المتعقل. وعرفناه هاوياً أمتهن العمل الصحفي يقتحم الزنازين والأقبية..، ويجري تحقيقات صحفية موثقة ينشرها لقرائه. وعرفه الناس جميعاً مصلحاً وطنياً واجتماعيا بإبداعاته القصصية الرائعة، مما جعله جليسنا الدائم أينما كنا، في مكاتبنا..، وفي مرارنا..، وفي خنادقنا.. نستلهم منه أسلوباً جديداً في حياتنا: في التسامح.. وفي فن الاختلاف.. فأين هو.. أين أبعري؟؟!
في الثلث الأخير من ليلة ظلماء من ليالي سنة 2001 أقتحم جلاوزة ملثمون غرفة نوم أبعري، وهو يغط في سابع نوم عميق بين أهله، فانتزعوه من وسطهم عنوة، واقتادوه إلى جهة مجهولة. والراجح أنه يقبع في جحر أنفرادي معتم يعاني مرارة الأسر المهين في ظروف تفتقد أبسط الحقوق الإنسانية. ويقاسي وحيدا آلامه المزمنة محروماً من أية خدمة تجيزها كل الشرائع والأعراف والقوانين المدنية كالرعاية الطبية، والاتصال بالأهل!. ومن تلك الليلة المشؤومة يعيش أبعري رهينا لا يعرف أحد مكان ارتهانه بمن في ذلك أهله والمنظمات الدولية الراعية لحقوق الإنسان. والسؤال المهم :” لماذا أختطف أبعري سراً..، ولماذا يحتفظ به كل هذه السنين الطويلة رهينا في حبس مجهول..، وهو مناضل وطني أصيل، وأديب ملتزم بقضايا شعبه، وداعية أصلاح وتسامح بين الناس كافة؟؟!.
لما استبد السلطان الأحد بالرأي، وبدأ يخبط عشوائياً بهدف تقويض أي جهد يرمي إلى بناء دولة حديثة على أساس دستوري يرتكز على فصل السلطات. وبات ينتهك كل الحرمات، وحجر على الناس حرية الكلام والتعبير؛ فأغلق الصحف المستقلة دفعة واحدة، وزج بأصحابها والعاملون فيها من الصحفيين والكتاب وعلى رأسهم أبعري.. في المعتقلات السرية خلافاً لكل الأعراف والقوانين المدنية. ولم يعد بطشه محتملا. فاستهجنا أفعال قمعه العشوائي، وبتنا ننادي الناس الطلقاء للاستنكار، وللاحتجاج على القمع والتنكيل الشامل الذي يطال كل الفئات المعترضة على سياسة القمع والأقصاء، ودعونا للتضامن مع هؤلاء الأسرى. ومما يؤسف له فقد كانت تأتينا ردود شامته..، كأن يقول لنا بعض الناس: “على ماذا تدعوننا..، هذه سلطتكم المتغولة، وهؤلاء المعتقلون أصحابكم..، ونحن ليس لنا دخل في الموضوع .. الدعوة كلها, هي قطة تأكل أبناءها..
دبروا أحوالكم مع قطتكم الآكلة..، وأتركونا وشأننا بعيداً عن مشاكلكم..!”. كانت صدمتنا مروعة من إجابة من قصدناهم للتضامن مع الأسرى المخطوفين! وعدنا نسائل أنفسنا: “هل معقول أن يتنصل مواطن حر عن مسؤليته، ووطنه يلتهمه حريق هائل، ويغرق أهله في برك من دمائهم، وحاكم مستبد يلوي أعناق الحقائق، ورقاب الناس الأبرياء، ويزج بالأحرار في المعتقلات السرية.. لا يا جماعة.. تذكروا القول المأثور: ” لا خير في أمة لا تحمى مبدعيها..”. أليس أبعري ومن معه من قادة الرأي مبدعونا.. فلم لا نحميهم من جور السلطا؟!. وثقوا تماما لو آثر ابعري ومن معه طريق السلامة الشخصية، وتركوا وطنهم المدفوع إلى هاوية الضياع يغرق في دم أبنائه، لو فعلوا ذلك لما أصابهم أحد بسوء، ولظلوا في مواقعهم: وزراء وسفراء وقادة جيش.. ولكنهم أحرار ضحوا بحريتهم ليأمن وطنهم في حاضره ومستقبله، وليعيش شعبهم حراً آمنا في وطن يفئ تحت مظلة القانون. بإرادتهم الحرة اتخذوا قرار مقاومة الاستبداد، وأبوا انحناء قامة شعبهم الرفيعة..، وكرهوا أن تنكمش إرادتهم خوفاً من الجلاد، فهم لم يكونوا فئة ضعيفة تستجدي التضامن منا. وإنما هم طليقة مقدامة افتدونا بحريتهم فلهم الحق المطلق أن نقف معهم في محنة الأسر.. وابعري لما حمل السلاح وقارع أعداء شعبه، وأصيب بالعاهة الدائمة لم يكن يطلب مجداً شخصياً، ولما أبدع قصصه الإصلاحية، وهو يعاني آلام الجرح لم تكن غايته الشهرة أو الكسب المادي، ومن هنا، وبكل اطمئنان وراحة ضمير يمكننا أن نجعل ابعرى المناضل، والكاتب المبدع، وجريح حرب التحرير المصاب بعاهة دائمة..، أن نجعله رمزاً لكل الأحرار القابعون في المعتقلات السرية، ونضعه عنوانا بارزاً لحملتنا المناهضة للاستبداد السياسي، والاجتماعي. وفي مسعانا المقاوم نجد سندنا كل شرائع الأرض والسماء، فأبعري بصفاته تلك تكفل له شرائع الأمم الحرة الحماية، والرعاية. وتجرّم بنص القانون والأخلاق مختطفوه، والمعتدون عليه.
حامد عبد الله
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=9675
أحدث النعليقات